كتبت "الاخبار" التالي : هي بكركي نفسها التي قادت إبان أزمة انفجار مرفأ بيروت حملة إعلامية سياسية وطائفية ضد أي اعتراض على قاضي التحقيق طارق بيطار وسلفه فادي صوان التي تهاجم اليوم القضاء وترميه، في حملة إعلامية وسياسية وطائفية أيضاً، باتهامات بالتسييس، مطالبة مرة بإقالة القاضي فادي عقيقي، ومرة أخرى بوضع رجال الدين فوق القانون وكأنهم من غير طينة البشر، متعامية عن القضية الأساس، وهي أن دخول المطران موسى الحاج إلى الأراضي الفلسطينية، بعيداً عن تسمية فلسطين المحتلة بغير اسمها (الأراضي المقدسة) في تعمية لغوية، هو شكل من أشكال التطبيع مع العدو لا يمكن تبريره، ويجب أن يخضع من يقوم به للمحاكمة أياً يكن زيّه الديني أو موقعه السياسي أو الروحي.
ناهيك عن أن المطران المذكور نقل أموالاً مرات عدة من عملاء للعدو فارّين إلى عائلاتهم في لبنان، وإلى عملاء جدد تجري متابعتهم من قبل الأجهزة اللبنانية المختصة. أما إذا كان الحاج بريئاً فلماذا لا يخضع للتحقيق وفق المنطق نفسه الذي استخدمته بعض القوى السياسية المتلطية بعباءة البطريرك مطالبة بمثول نواب ووزراء سابقين ورؤساء أجهزة أمنية في ملف المرفأ. وإلا فإن ما يريده من يتهمون غيرهم بإقامة «دولة داخل الدولة» إنما هو إقامة «دولة فوق الدولة».
لذلك، فإن المطلوب فوراً، وفق مراجع رسمية عليا، أن يبقى القضاء متماسكاً وأن يتخذ التدابير اللازمة من ضمن سلطته. أما معالجة المسألة على «الطريقة اللبنانية»، أي وفق «اجتهاد» صوّان سابقاً باعتبار القضاء العسكري غير صالح للح
كم في هذه القضية، فقد «بات متعذراً حتى لا ننتقل من «قضاء المرفأ» و«قضاء رياض سلامة» إلى «قضاء بكركي». وهو ربما ما يفسّر تصعيد البطريرك الراعي أمس لهجته، مستقوياً بـ«الحشود» الشعبية في الديمان، بالتأكيد أن المطران الحاج سيواصل جمع «المساعدات» وأن توقيفه على الحدود «ممنوع»، داعياً إلى ردّ الأموال والأدوية التي صودرت معه!
فمرة أخرى، أوقع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع البطريركية المارونية في شرك أجندته السياسية التي لا تتواءم مع تعاظم نفوذ أي طرف ماروني - حتى لو كان صرح بكركي - على حساب معراب.
هكذا، ساهم القواتيون في الأيام القليلة الماضية في تأجيج قضية المطران موسى الحاج في الإعلام وعلى وسائل التواصل، وقادوا حملة «الحجّ» إلى بكركي لدعم مواقف البطريرك بشارة الراعي.
لكن ما إن دقّت أجراس الكنائس صباح أمس، حتى صمّ جعجع أذنيه، وجلس يتفرّج على الراعي يلقي عظته بحضور قلة قليلة لا تتعدّى العشرات في ساحة الصرح. واكتفى بإرسال بعض النواب كرفع عتب.
جعجع وغيره من القوى السياسية التي تدور في فلك 14 آذار، ممن رفعوا سقف مواقفهم الأسبوع الماضي دعماً للراعي وتأكيداً على استهدافه شخصياً عبر إخراج قضية المطران من سياقها، تعمّدوا رفع منسوب الحماسة الكنسية والشعبية ونشر شعارات الوقوف مع بكركي ضد «الطغيان والهيمنة ومحاولة إسكات الصوت المسيحي».
على هذا الأساس، نُظّمت أمس مسيرة حجّ شعبي إلى الديمان، بعد دعوات تبيّن أنها وهمية ولم تؤدّ سوى إلى إضعاف موقع البطريرك وإظهاره وحيداً من دون أي سند سياسي جدّي. وهذه ليست المرة الأولى يدفع فيها جعجع وغيره من القوى البطريرك إلى تبني تنظيم نشاط شعبي ويخذلونه بعدم الحشد له. مشهد أمس تكرّر، إذ سبقه مشهد مماثل في 27 شباط 2021 عندما قادت القوات والكتائب و«لقاء سيدة الجبل» وحركة الاستقلال وآخرون تظاهرة شعبية إلى بكركي دعماً لدعوات الراعي إلى الحياد وعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان برعاية الأمم المتحدة، فانتهى التحرك بحشد هزيل أسقط كل طموحات البطريرك.
من جهته، كرّر الراعي في عظته أمس الكلام الذي نقله عنه زواره طوال الأسبوع الماضي حول اعتباره مسألة توقيف الحاج على معبر الناقورة، ولو لعدة ساعات للتحقيق معه حول مصدر الأموال التي يحملها ووجهتها، «إهانة للبطريركية المارونية، ولي شخصياً».
وقال: «إذا كان هناك من قانون يمنع جلب المساعدات الإنسانيّة، فليبرزوه لنا (...) من غير المقبول أن يخضع أسقف لتوقيف وتفتيش ومساءلة، من دون الرّجوع إلى مرجعيّته الرّوحيّة أي البطريركية، وفي هذا إساءة إلى البطريركية المارونية وتعدّ على صلاحيّاتها».رفض «هذه التصرفات البوليسية ذات الأبعاد السياسية، ونطالب بأن يُعاد إلى المطران الحاج كلّ ما صودر منه، أي جواز سفره اللبناني وهاتفه المحمول وجميع المساعدات من مال وأدوية، كأمانات من لبنانيين في فلسطين المحتلة والأراضي المقدّسة، إلى أهاليهم في لبنان، من مختلف الطوائف».
وتوجّه الراعي إلى من يسيئون إلى لبنان: «كفّوا عن قولكم إن المساعدات تأتي من العملاء، وابحثوا عن العملاء في مكان آخر فأنتم تعلمون أين هم ومن هم». ووجد البطريرك في المناسبة فرصة لإعادة إحياء شعارات «الحياد الإيجابي الناشط» و«عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان لبتّ المسائل المسماة خلافية ويعجز اللبنانيون عن حلها».
ففي نظر الراعي، التطبيع وتلقّي أموال من العملاء باتا مسألة خلافية تفرض على المجتمع الدولي المنحاز إلى العدو الإسرائيلي والمدافع عن جرائمه الإنسانية وكل انتهاكاته، إيجاد حلّ لها. وسؤال المطران الآتي من الأراضي المحتلة عن مصدر الأموال التي في حوزته ووجهتها غير مسموح، بل تقابله حملة طائفية ممنهجة هدفها تسخيف موضوع التطبيع والحديث عن ضرورة إرساء السلام بين كل شعوب العالم. من هذا المنطلق تابع الراعي كلامه مشدّداً على أنه «آن الأوان لتغيير هذا الواقع المليء بالكيدية ولا يُبنى لبنان ولا ينمو ولا يتوحّد بهذا النهج المنحرف عن قيم شعبه وتاريخه».
لم يعد الأمر يتعلّق بتداعيات رسم خطّ أحمر حول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لمنع المسّ به رغم سرقته أموال الشعب اللبناني والملاحقات الصادرة في حقه دولياً ومحلياً، بل تطوّر ليشمل اليوم استخدام موقع ديني لمنع التحقيق في قضية تتعلّق بالتطبيع. وهي سابقة خطيرة تؤسّس لرسم حمايات طائفية مماثلة تحت عنوان «قدسية مهامّ رجال الدين»، والتي قد تُرتكب تحتها مخالفات قانونية كثيرة. إلا أن الأخطر من ذلك كله هو الإطاحة نهائياً بدور القضاء، من قبل من يكلّون عن الصراخ بضرورة تحقيق استقلالية القضاء وجعله فوق كل اعتبار وعدم التدخل في عمله. فيما يطالبون اليوم بمحاسبة قاض وإزاحته لأنه لم يقم إلّا بأدنى واجبات عمله عند مخالفة أيّ مواطن للقانون، سواء أكان مدنياً أم شيخاً أم مطراناً.