كتب ماهر ابي نادر في "موقع 180 بوست" التالي : دخلت الغارات الحربية المجنونة، التي أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشنّها على لبنان، يومها الثالث وذلك قبل أسبوعين من مرور عام على بداية العدوان الإسرائيلي على كل من قطاع غزة وجنوب لبنان. كانت حصيلة الأيام الثلاثة خسائر بشرية زادت عن 600 شهيد وأكثر من ألفي جريح، وطاولت نيرانها مناطق في كسروان وجبيل والشوف وأقصى شمال لبنان وشرقه، بالإضافة إلى كل مناطق جنوبه وضاحية بيروت الجنوبية.
حدَّد بنيامين نتنياهو أهداف عدوانه الوحشي بفصل جبهة لبنان عن جبهة فلسطين المحتلة (قطاع غزة والضفة الغربية)، وتأمين عودة سكان المستوطنات في شمال فلسطين وإبعاد المقاومة عن الحدود إلى شمال نهر الليطاني.
بهذه الأهداف يحاول نتنياهو الهروب من فشله في تحقيق الأهداف التي وضعها للعدوان على غزة، برغم كل المجازر وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها بحق المدنيين. وهو يُمهّد لسيناريو مماثل مع لبنان بالنظر إلى عدد الشهداء الذين سقطوا وحجم الدمار الذي وقع حتى الآن.
ثمة ملاحظة هنا وهي أنه وبرغم فداحة العدوان إلا أنه لم يطل – حتى الآن – البنى التحتية في لبنان (جسور، محطات كهرباء وماء، مطار، مرفأ، الخ..). بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية ذكرت أن واشنطن وافقت على الهجمات الإسرائيلية بشرط عدم المساس بالبنى التحتية الرسمية والاكتفاء بالضغط على البيئة الحاضنة للمقاومة، وهذا يعني أن الإدارة الأميركية متورطة وشريكة في المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين اللبنانيين خلال الأيام الثلاثة المنصرمة وستكون شريكة بالمجازر المرتقبة خلال الآتي من الأيام.
ولرؤية الوضع السائد بشكل واضح، لا بد من قراءة الدينامية التي تتحكم بالوضع المتفجر. هناك ثلاثة مآزق تتحكم بهذه الدينامية- جميعها مرتبطة إلى حد كبير بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويكاد يكون الأمر قاب خطأ واحد في التقدير من قبل أي طرف من أطراف المواجهة حتى تنفجر حرب شاملة تجر معها كل منطقة الشرق الأوسط إلى إنفجار واسع لا أحد يعرف كيفية الخروج منه. وقد بات المشهد اليوم يؤكد أكثر من أي يوم مضى أن لا خروج من نفق الحرب الشاملة إلا عبر تسوية تؤدي إلى وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية مهما كانت الأثمان.
المأزق الأول “إسرائيلي”
الحكومة “الإسرائيلية” اليمينية؛ والتي تُعد الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني؛ تقع في شرّ سقوف أهدافها العالية التي وضعتها في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي: إزالة حركة “حماس” من الوجود وشلّ والمقاومة الفلسطينية في غزة، إستعادة أسرها أحياء، وأضافت إليها شرطا رابعاً هو إعادة سكان المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة إلى منازلهم.
لقد فشلت الحملة العسكرية خلال عام من الإبادة الجماعية والمجازر الوحشية بحق المدنيين الفلسطينيين في تحقيق أي من تلك الأهداف، وفشلت أيضاً في فصل المسار المتلازم بين الجبهتين الشمالية والجنوبية. لذلك مارست الحكومة الإسرائيلية سياسة الهروب إلى الأمام وفق السيناريو نفسه الذي اتبعته في قطاع غزة، فشنَّت أكثر من 2000 غارة جوية على لبنان خلال ثلاثة أيام لتتأكد مع هذه الغارات غير المسبوقة في فترة زمنية قصيرة مظاهر المأزق “الإسرائيلي”.
فالجيش الذي يخوض أطول حرب في تاريخ الكيان بات منهكاً وعاجزاً عن ايجاد حلول عسكرية لأي من الأهداف الموضوعة للعدوان. واقتصاده أيضاً منهكاً ويتدهور كل يوم وفق كل المؤشرات الاقتصادية المحلية والدولية.
والوضع الاجتماعي أكثر إنهاكاً وتفككاً وانقساماً. يُضاف إلى ذلك كله وجود أكثر من 200 ألف مستوطن مهجرين من أماكن سكنهم، وهي المرة الأولى في تاريخ الكيان.
لم يعد من سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بأحد أمرين اثنين لا ثالث لهما: إما بتوسيع دائرة العدوان بضمان انخراط الولايات المتحدة وحلفائها مباشرة في هذا العدوان. وإما بالذهاب إلى تسوية تقوم على وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والشعب اللبناني. مع العلم أن الغارات الأخيرة على لبنان لا بد أن تكون قد حصلت بضوء أخضر أميركي، غير أن هذا الضوء الأخضر لا يشمل الإنجرار إلى حرب شاملة. وقد سبق أن أبلغته الدولة العميقة في الولايات المتحدة (المتمثلة بموقفي الحزبين الديموقراطي والجمهوري وأجهزة الاستخبارات) القيادة الاسرائيلية برفضها توسيع الحرب والاكتفاء بالدفاع عن أمن إسرائيل إن تعرضت لهجوم.
الأمر الأول متعذر اليوم، وعلى الأقل حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وتولي الرئيس الجديد منصبه في العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل. فالإدارة الأميركية الحالية فاقدة لأي ورقة ضغط على الحكومة “الإسرائيلية”. هذا مع افتراض النية الحسنة بذلك، بسبب الانتخابات ودور اللوبي اليهودي الفعَّال جداً فيها.
والأمر الثاني متعذر أيضاً لأن أي تسوية الآن تقضي بوقف العدوان على غزة والضفة ستكون بلا ريب هزيمة مدوية للحكومة “الإسرائيلية”، لأنها تكون قد فشلت في تحقيق الأهداف التي وضعتها لعدوانها على غزة. ومن شأن هكذا هزيمة أن تودي ليس فقط بالمستقبل السياسي لنتنياهو بل ستودي أيضاً بمستقبل كل قوى اليمين المتطرف الذي تتشكل منه هذه الحكومة، إلا إذا أعطت الإدارة الأميركية ضمانات لنتنياهو وتحالفه الحاكم بعدم خضوعهم للمحاكمة. وهذا الأمر متعذر قبل الانتخابات الأميركية.
نصر بائن أو هزيمة كارثية
المأزق الثاني هو لدى المقاومة- بشقيها اللبناني والفلسطيني- بسبب وحدة المسار والمصير كما يقول كل من حزب الله وحركة “حماس”.
في الشق الفلسطيني من هذا المأزق، الاستسلام غير وارد على الإطلاق، وبالتالي لم يعد أمام قيادة المقاومة الفلسطينية إلا أحد أمرين: الأول، مواصلة التصدي للعدوان والقتال حتى آخر مقاتل لديها كي لا تذهب كل تضحيات الشعب الفلسطيني هباء منثوراً.
والأمر الثاني، القبول بتسوية توقف العدوان وانسحاب “إسرائيلي” كامل من القطاع، ولو على مراحل، وتبادل الأسرى، والاتفاق على شكل السلطة التي ستتولى عملية إعادة البناء. أي بمعنى آخر إما نصر بائن أو هزيمة كارثية للقضية الفلسطينية.
أما في الشق اللبناني، فإن كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في خطابه الأخير، قد دلَّل، وبشكل واضح، على مأزق الحزب، عندما قال إن قبول المقاومة في لبنان بفصل مسارها عن مسار العدوان على غزة والضفة يعني أن تضحيات المقاومة على مدى عام كامل كانت بلا جدوى. وهنا الكلام عن أكثر من 500 شهيد للمقاومة، بينهم العديد من القادة العسكريين، ناهيك عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى المدنيين، ودمار هائل في القرى الحدودية في جنوب لبنان، وتدمير في بعض قرى البقاع، ونزوح أكثر من نصف مليون لبناني عن قراهم. لقد بات طريق الخروج من هذا المأزق هو تماماً ما حدَّده نصرالله منذ بداية العدوان “الإسرائيلي”، أي وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وإلا مواصلة حرب الإسناد. وبطبيعة الحال فان المقاومة في لبنان أعلنت منذ اليوم الأول أن مهمتها هي الإسناد لغزة فقط ولا مصلحة لها في توسيع الحرب، ولكن إن بادر “الإسرائيلي” لذلك فهي جاهزة للمواجهة. وهنا يبدو أن “الإسرائيلي” قد بادر عبر الغارات التي شنَّها، وقد ردَّت عليه المقاومة بتوسيع دائرة استهدافاتها لعمق تجاوز 120 كلم عن الحدود اللبنانيىة.
المأزق الثالث “أميركي إيراني”
في ظل هذا المأزق، بات واضحاً للعيان أن الأميركيين والإيرانيين لا يريدون حرباً شاملة في المنطقة. والدليل على ذلك ليس فقط التصريحات الصادرة عن قادة البلدين بل وأيضاً الأفعال. فطهران لم ترد حتى الآن على اغتيال رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية على أراضيها، وواشنطن سحبت حاملتي طائراتها وغواصتها الهجومية من البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. وبسبب الانتخابات لا تستطيع الإدارة الأميركية عقد أي اتفاق مع إيران، ولا مصلحة للأخيرة لإبرام إتفاق مع إدارة أميركية باقٍ من عمرها شهر ونصف الشهر فقط، وقد لا تحترم الإدارة الأميركية المقبلة أي اتفاق يتم الآن، ولو أن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ذكر في كلمته في الأمم المتحدة أن بلاده جاهزة للتفاوض بشأن الملف النووي. من هنا فان التراشق الإعلامي بين الطرفين والمناوشات مع القواعد الأميركية في المنطقة التي تتولاها بعض القوى الحليفة لإيران في العراق واليمن من حين لآخر والغارات التي تشنها الطائرات الحربية الأميركية على هذين الحليفين هي السقف الأعلى الذي يمكن الوصول إليه قبل الانتخابات الأميريكية.
لا شك أن المأزق الإيراني ليس سهلاً أبداً، فطهران تعلم أنها، ومنذ بدأت ببناء برنامجها النووي في العام 2004، أصبحت في عين العاصفة والاستهداف، خصوصاً من قبل إسرائيل؛ الدولة النووية الوحيدة في الشرق الاوسط. وهي مستهدفة أيضاً من قبل أميركا. وقد تمكنت عبر المناورات السياسية من تجاوز كل محاولات إسرائيل لجرّها إلى حرب مفتوحة مع أميركا. ولكن اليوم، مع الهجوم العنيف الذي يتعرض له حلفاؤها (في فلسطين ولبنان) لا تستطيع أن تتركهم لقدرهم، لأن في ذلك تراجع كبير لكل ما بنته على مدى العقود الأربعة المنصرمة من نفوذ عبر هؤلاء الحلفاء، ولأن سقوط حلفائها لن يمنع وصول النيران إلى العباءة الإيرانية، وفق نظرية “لقد أكلت حين أكل الثور الأبيض”.
إن التعقيدات التي ترافق مآزق القوى المنخرطة في هذه الحرب كلها تشير إلى عدم إمكانية الوصول إلى حرب شاملة في المدى المنظور حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولكن هذا الاحتمال يبقى معلقاً أيضاً على أي عملية تحمل سوء تقدير من هذا الطرف أو ذاك لتجر كل الأطراف إلى الحرب الشاملة طالما لا سبيل لأي منهم للنزول عن الشجرة المأزق القابع فيه. وبانتظار تلك الانتخابات تبقى أيادي قوى الصراع على الزناد، ويبقى التصعيد متحركا في خط بياني مرتفع حيناً ومنخفض أحياناً إلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود في تلك الانتخابات.