كتب سميح صعب في "موقع 180 بوست" التالي : بين تضخيم إسرائيل حجم الضربة التي وجّهتها لإيران فجر اليوم (السبت) وسعي إيران إلى التقليل من شأنها، ومسارعة الولايات المتحدة إلى التشديد على ضرورة وقف دوامة الضربات المتبادلة بين طهران وتل أبيب تفادياً لاندلاع نزاع إقليمي واسع، في الإمكان تلمس دلائل على رغبة في خفض التصعيد.
تدلُ الضربة الإسرائيلية التي اقتصرت على أهداف عسكرية في محافظات طهران وعيلام وخوزستان واستثناء البنى التحتية نفط ومرافىء ومطارات ومنشآت نووية، إلى أن هذه المرة الأولى التي يتجاوب فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع طلب للرئيس الأميركي جو بايدن منذ أكثر من عام.
ومنذ توجيه إيران ضربة صاروخية لإسرائيل في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الجاري رداً على اغتيالها لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية في 31 تموز/يوليو والأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 أيلول/سبتمبر الماضي، تكثّفت الإتصالات الأميركية بالمسؤولين الإسرائيليين، ولا سيما بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، واتصل بايدن مرتين بنتنياهو، وشاركت المرشحة الديموقراطية للرئاسة الأميركية كامالا هاريس فيهما.
كانت المواكبة الأميركية للضربة الإسرائيلية واضحة منذ البداية وحتى النهاية، ولم يخرج نتنياهو عن السيناريو الموضوع بدقة مع البيت الأبيض، كي لا تخرج الأمور عن السيطرة وتتدحرج نحو حرب واسعة النطاق تتورط فيها الولايات المتحدة قبل أيام من الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تشهد احتداماً في المنافسة بين هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
ولم تكن واشنطن بعيدة عن إيران أيضاً، إذ أكد مسؤولون أميركيون إنهم على تواصل مباشر وغير مباشر مع طهران، في سياق السعي الحثيث لضبط أي رد فعل إيراني. وذهب موقع “والا” الإسرائيلي إلى حد القول إن إسرائيل “وجّهت رسائل لإيران قبل ساعات من الهجوم، لتبلغها بالأهداف التي ستهاجمها وتلك التي لن تهاجمها”.
وإذا كانت إسرائيل تُصوّر هجومها الذي شمل أكثر من مئة طائرة ومسيّرة، على أنّه حقّق الأهداف المتوخاة منه ودمّر مواقع الصواريخ وبطاريات الدفاع الجوي الإيرانية، فإن إيران أشادت بدفاعاتها الجوية أيضاً التي تصدّت للهجوم الإسرائيلي.
وتعتقد أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس داليا داسا كاي أن “هذا السيناريو الأفضل لإحتواء هذه الجولة، أخذاً في الاعتبار الضربات الإسرائيلية المحدودة بدلاً من استهدافها للمنشآت النفطية أو النووية.. هذا يمنح إيران استراتيجية خروج إذا كانت تبحث عن مثل هذه الاستراتيجية. لكننا ما نزال في مكان مختلف، لأن إسرائيل وإيران هما الآن في نزاع مباشر ومفتوح”.
“الأهداف المنتقاة” وفق معادلة الرد المقابل المتناسب، جعلت المسؤولين في طهران يشعرون “ببعض الارتياح”، وفق الكاتب الأميركي من أصل إيراني آراش عزيزي، لأن إسرائيل لم تستهدف البنى التحتية المتعلقة بالنفط والكهرباء والمياه ولا المدنيين.
لكن نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي لفن الحكم المسؤول تريتا بارسي يرى “أننا ما نزال في مسار تصعيدي، إلا إذا انتهت المجزرة في غزة ولبنان”.
وربما لا تذهب إيران إلى تصعيد فوري وانتظار ما يمكن أن تجنيه في السياسة، في وقت تشتعل جبهة شمال غزة على وقع “خطة الجنرالات” التي ترمي إلى تفريغ شمال القطاع من السكان وإقامة حزام أمني، يحول من وجهة النظر الإسرائيلية، دون تكرار هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، علاوة على احتدام المعارك في جنوب لبنان على مدى أقل من شهر ومحاولة إسرائيل فرض “واقع أمني” مغاير في المنطقة الحدودية.
في هذه الغضون، يُحكى عن احتمال معاودة المفاوضات من أجل التوصل إلى وقف للنار في غزة مع توجه وفد من “الموساد” الإسرائيلي إلى الدوحة غداً (الأحد)، ومع مباحثات أجراها وفد من “حماس” في القاهرة يوم الخميس الماضي، وذلك عقب جولة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في المنطقة أوائل الأسبوع الجاري.
هذه الجولة التي تركّزت في جزء منها على ضرورة عدم توجيه ضربة لإيران تجر إلى تصعيد كبير، رمت أيضاً إلى استكشاف امكان التوصل إلى وقف مؤقت لاطلاق النار في غزة، يُتيح الإفراج عن عدد معين من الأسرى الإسرائيليين، في مقابل سماح إسرائيل بدخول كميات أكبر من المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
مثل هذا الهدف الأميركي المتواضع يهدف أيضاً إلى تمرير استحقاق الانتخابات الرئاسية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بأقل قدر من التأثير السلبي على المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس، التي تواجه صعوبات في اقناع الناخبين العرب والمسلمين والتقدميين بأنها “ليست بايدن”، الذي دفعت سياسته حيال غزة إلى انفضاض شريحة كيبرة من هؤلاء عن الحزب الديموقراطي.
وأمام الصعوبات التي تواجهها إسرائيل في التوغل البري في جنوب لبنان، بدأت تصريحات تصدر عن المستوى العسكري تُلمح للمرة الأولى إلى إمكان الانتهاء من العمليات البرية هناك في غضون أسبوع إلى أسبوعين مع تلميحات أخرى بالانتقال إلى “منطقة ثانية”، ويُمكن عطف ذلك على تصريح رئيس الأركان هرتسي هاليفي الذي تحدث عن امكان انهاء الهجوم في ضوء تمكن إسرائيل من اغتيال القادة الكبار في “حزب الله”.
ويراهن الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أندرو تابلر، على أن الجهود التي تبذلها القنوات الخلفية، يُمكن أن تلعب دوراً في التوصل إلى تفاهم بين القوى المتحاربة.
في الخلاصة ثمة تشابكات وتعقيدات تجعل ملف وقف النار في كل من لبنان وغزة محكوماً بعناصر عدة، لعل أبرزها ما يُمكن أن تُسفر عنه الإنتخابات الأميركية وما يُمكن أن يتطور من تناقضات في الداخل الإسرائيلي، سواء داخل المستوى السياسي نفسه أو بين هذا المستوى والمؤسسات العسكرية والأمنية التي بدأ يعلو صوتها في ضوء مآلات الحرب ومحاكاة الأهداف التي حدّدها لها نتنياهو في كل من غزة ولبنان منذ 12 شهراً ونيف حتى الآن.