كتبت صحيفة "الجمهورية" التالي : تتفق التقديرات والتحليلات السياسية والعسكرية والأمنية على اعتبار المرحلة الحربية الراهنة على جبهة لبنان، بأنّها فترة مراوحة نارية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الاميركية المقرّرة الثلاثاء في الخامس من تشرين الثاني المقبل، أي بعد اسبوع. من دون أن تُخرج تلك التقديرات والتحليلات من حسبانها احتمال أن تشهد الأيام السبعة الفاصلة عن موعد الانتخابات تطورات عسكرية غاية في الخطورة والتصعيد، وخصوصاً في ظلّ استمرار المواجهات العنيفة بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي على تخوم القرى والبلدات الحدودية، ورفع إسرائيل لوتيرة عدوانها التدميري الذي تركّز بالأمس بغارات عنيفة على البنى المدنية في مدينة صور، وكذلك في موازاة رفع «حزب الله» لوتيرة مواجهاته في الميدان البري، واستهدافاته الصاروخية للمواقع والقواعد والمستوطنات والمدن الاسرائيلية. وتبعاً لذلك، تقدّم لبنان عبر وزارة الخارجية بشكوى جديدة إلى مجلس الأمن ضدّ اسرائيل بشأن الاعتداءات الاخيرة واستهداف الصحافيين ومنشآت إعلامية.
رهان على سراب
السؤال الذي يطرح نفسه في موازاة ذلك، ماذا يمكن أن يحصل بعد 5 تشرين الثاني، وهل سيشكّل انتخاب رئيس أميركي جديد محطة تغيّر مشهد المنطقة ولبنان من ضمنها، وتضبطه في مسار سريع نحو الحل الديبلوماسي، ووقف لإطلاق النار؟
على ما يقول ديبلوماسي خبير في الشأن الأميركي لـ«الجمهورية»، فإنّ الرهان على أن يحمل الخامس من تشرين الثاني المقبل متغيّرات فورية تنعكس إيجاباً على الوضع اللبناني، أشبه بالركض وراء السراب. فالإدارة الأميركية الجديدة لتتشكّل تحتاج بالحدّ الأدنى إلى بضعة أشهر بعد تسلّم الرئيس الاميركي الجديد مهامه في 20 كانون الثاني المقبل».
ويضيف الديبلوماسي عينه، أنّه «ما من شك انّه في 5 تشرين الثاني يشكّل اعلاناً عن دخول الولايات المتحدة الاميركية في حقبة رئاسية جديدة بعد نحو شهرين من الآن، وسواء فازت كامالا هاريس او دونالد ترامب، ولكن ما ينبغي ان يتنبّه إليه المبالغون في تقديراتهم، والمراهنون على تغييرات جذرية في هذا التاريخ، هو أنه سواء فازت هاريس او ترامب، فإنّ ثمة خطوطاً عريضة محل إجماع أميركي تسير عليها الولايات المتحدة وفق ما يحقق مصالحها بالدرجة الأولى، سواء على المستوى الدولي، او ما خصّ الشرق الاوسط ولبنان. مع فارق بسيط جداً وهو الاختلاف في آليات تحقيقها بين رئيس يمارس سياسة خشنة ورئيس يعتمد سياسة ليّنة. وبالتالي فإنّ من السذاجة القول إنّ التغيير الرئاسي في الولايات المتحدة، هو انقلاب سياسي ونهج جديد وسياسات جديدة.
ويلفت الديبلوماسي عينه، إلى أنّه في صلب المصالح الاميركية تقع اولوية دعم اسرائيل وحمايتها وتأكيد حقها في الدفاع عن نفسها، ما يعني أنّ سياسة الرئيس الاميركي الجديد ستكون استمرارية للسياسات الأميركية السابقة، وبالتالي فإنّ المقاربة المنتظرة في العهد الرئاسي الاميركي الجديد هي نفسها التي اعتُمدت في عهد بايدن كما في العهود الرئاسية الأميركية السابقة له. ولكن يجب ان ننتبه جيداً الآن إلى أنّ الولايات المتحدة حالياً في مرحلة انتقالية بين عهدين حتى ولو فازت كامالا هاريس نائبة الرئيس الاميركي الحالي، واكتمال الادارة الاميركية الجديدة مع هاريس او ترامب يتطلب بعض الوقت».
يُستنتج من هذه القراءة الديبلوماسية، أنّ المسعى الأميركي للحل السياسي، إن لم يحقق خرقاً في الايام او الاسابيع القليلة المقبلة، فسيرحّل الحل المنتظر ربما الى ما بعد تشكّل الادارة الاميركية الجديدة؛ أي بعد أشهر. وحتى لو تغيّر الأشخاص، سيستمر بالوتيرة نفسها، وتحت العناوين والطروحات نفسها التي صاغتها تطورات الميدان العسكري، وسبق للوسيط الأميركي الحالي آموس هوكشتاين أن طرحها على الجانب اللبناني، ولاسيما في ما خصّ العودة الى القرار 1701 كمرتكز للحل السياسي على جبهة لبنان.
يُشار في هذا السياق الى ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية حول «أنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ينتظر لمعرفة من سيخلف الرئيس بايدن قبل الالتزام بمسار ديبلوماسي».
فقاعات إعلامية
بالعودة إلى الميدان، فإنّه ينحى في مسار تصاعدي، وعلى ما تؤكّد مجرياته، فإنّ العدوان الإسرائيلي متفلت من أي ضوابط او كوابح لجنونه التدميري للمناطق اللبنانية. وما يُحكى عن جهود لوقف هذا العدوان وبلورة اتفاق على وقف اطلاق النار، فإنّه، وفق ما قال مسؤول كبير معني بحركة الاتصالات لـ«الجمهورية»، «لا يعدو اكثر من فقّاعات إعلامية فارغة لا أساس لها. أقلّه حتى الآن».
ورداً على سؤال حول السيناريوهات والروايات التي تحدثت عن حراك جديد للوسيط الاميركي آموس هوكشتاين يقوده إلى اسرائيل، ومن ثم الى لبنان إن وقف على ايجابيات من المسؤولين الاسرائيليين، قال المسؤول عينه: «بعض القنوات الإسرائيلية قالت انّ هوكشتاين سيقوم بزيارة إلى اسرائيل في اطار مهمّته لبلوغ حل سياسي ووقف اطلاق النار، ولكن في ما يعنينا في لبنان، فلا يوجد أي شيء حتى الآن على الإطلاق».
ولفت المسؤول عينه إلى أنّ الكرة في ملعب اسرائيل، ومهمّة هوكشتاين هي في اسرائيل وليست في لبنان، وخصوصاً انّه في زيارته الأخيرة تبلّغ موقف لبنان من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بأنّ الحلّ للوضع القائم محدّد في القرار 1701 وتطبيقه بحذافيره بشكل كامل وشامل، وانّ لبنان ملتزم كلياً بهذا القرار، ولا يقبل أي تعديل له، او أي تجزئة له، او إقرانه بأي ملاحق له. وهذا الموقف تمّ إبلاغه لكل الموفدين والمستويات الدولية.
وخلص المسؤول الكبير إلى القول: «في مطلق الاحوال، إسرائيل ماضية في عدوانها، ولا تتجاوب مع أي مسعى لوقف هذا العدوان، وهذه مسؤولية الاميركيين الذين يقولون انّهم يريدون وقفاً سريعاً لاطلاق النار، وقلنا ذلك بصراحة لهوكشتاين. واما من جهتنا فلا نرى سوى القرار 1701 سبيلاً لإنهاء العدوان، ولا يمكن لنا أن نقبل بأيّ صيغ لحلول على حساب لبنان وسيادته على جوه وبحره وكامل ترابه الوطني».
وكانت معلومات غير مؤكّدة تحدثت عن وصول هوكشتاين إلى تل ابيب حاملاً معه اقتراح آلية لتطبيق القرار 1701، خلاصتها: هدنة لثلاثة أسابيع، ووقف العمليات الحربية، سحب سلاح «حزب الله» إلى شمال الليطاني، وانسحاب إسرائيل خلف الخط الازرق، تشكيل لجنة رباعية اميركية فرنسية بريطانية والمانية لمراقبة سحب السلاح وانسحاب اسرائيل، وتعزيز انتشار الجيش بـ8000 جندي، وتحديد آلية أممية تضمن لليونيفيل حرّية العمل جنوب الليطاني بالتنسيق مع الجيش اللبناني لتطبيق فعلي وحرفي للقرار 1701، ويتزامن ذلك مع تكليف الجيش ضبط مطار بيروت والمرافئ اللبنانية والحدود اللبنانية- السورية، وإغلاق ممرات التهريب بين لبنان وسوريا، على أن يلي ذلك إطلاق مفاوضات لتثبيت الحدود اللبنانية.
شروط مرفوضة
تبعاً لذلك، أكّدت مصادر عين التينة لـ«الجمهورية» أنّ «أي شروط او طروحات تمسّ بسيادة لبنان، هي مرفوضة وساقطة كلياً أمام القرار 1701 الذي نلتزم به ونصرّ على تنفيذه بكل مندرجاته، وبالتالي لسنا معنيين بكل ما يُحكى في الإعلام وغير الإعلام عن ملحقات أمنية او سياسية سرّية او علنية لهذا القرار».
إخفاق
إلى ذلك، وفي ذروة احتدام العمليات الحربية، أبلغ مرجع أمني إلى «الجمهورية» قوله، إنّ «التقارير العسكرية عن الميدان لا تعكس تبدّلاً نوعياً في وقائعه منذ انطلاق العملية البرية الإسرائيلية في جنوب لبنان، و«حزب الله» تمكّن من فرملة هذه العملية ومنعها من التقدّم الى أبعد مما تسمّى تخوم الحافة الأمامية، وكبّد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة جداً. وهذا الإخفاق في تحقيق انجاز على الجبهة البرية، يعوّض عنه جيش العدو باستهداف البنى المدنية في الضاحية الجنوبية (إضافة الى مدينة صور بالأمس) وبلدات الجنوب والبقاع. وكذلك في تفجير منازل القرى المتاخمة لخط الحدود، بما يبدو وكأنّه يظهر للداخل الإسرائيلي من خلال هذه التفجيرات بأنّه حقق انجازاً ما».
وأكّد المرجع «أنّه سمع تقييماً سلبياً جداً من أحد الملحقين العسكريين الأجانب للعملية الاسرائيلية البرية، يؤكّد فيه انّه فوجئ بأداء الجيش الاسرائيلي، وبقدرة «حزب الله» وتكتيكاته العسكرية التي حقق فيها تفوقاً ملحوظاً في الميدان، وهو الأمر الذي سيعجّل حتماً في إنهاء الحرب ووقف اطلاق النار»، مشيراً الى أنّ الحزب تمكّن من رفع فاتورة الخسائر لدى الجيش الاسرائيلي الى حدود غير متوقعة. وإسرائيل راهنت على أن تتمكن من خلال عمليتها العسكرية ان توجد واقعاً وفق شروطها خاضعاً لسيطرتها، تتوجّه فيه بإنجاز الهدف الذي اعلنه نتنياهو بإعادة سكان الشمال وإبعاد «حزب الله»، ولكن الامور جاءت معاكسة، وخلاصتها انّ الفشل في البر، وارتفاع وتيرة سقف خسائر اسرائيل، إضافة الى تدرّج «حزب الله» في استهدافاته الصاروخية بوتيرة كثيفة، تجعلها غير قادرة على أن تفرض شروطها، بل أن تخضع في النهاية إلى جهود وقف الحرب، وفق ما ينص عليه القرار 1701».
الموقف الإسرائيلي
إسرائيلياً، رفع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو من وتيرة تصعيده، معلناً «أننا قتلنا نصرالله ولن يعود ليقول بيتنا كبيت العنكبوت»، لافتاً، أنّه «في اليوم التالي لن تحكم حماس غزة، ولن ينتشر «حزب الله» على حدودنا الشمالية»، وقال انّه يسعى إلى الانتصار في حرب النهضة. «ونحن الحاجز الحقيقي أمام إيران ومن دون صمودنا سينهار العالم والشرق والاوسط»، مشيراً الى أنّ «مستقبل الشرق الاوسط الذي نسعى اليه سيتمّ فيه تحجيم ايران».
وفي موازاة ذلك، بدأ النقاش يحتدم في إسرائيل حول استمرار الحرب، حيث قالت صحيفة «يديعوت احرونوت» العبرية «انّ الحكومة الإسرائيلية ضحّت بالرهائن والجنود على حساب استمرارها في الحكم»، فيما أجمعت القنوات وتقديرات المحللين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين على أنّ «حزب الله» استعاد عافيته وأعاد التقاط أنفاسه وتنظيم هيكليته بعد الضربات العنيفة التي تلقّاها باغتيال أمينه العام وعدد كبير من قادته وكوادره العسكريين والميدانيين، وبصعوبة المواجهة معه، وهو ما عكسته العملية البرية التي لم تحقق حتى الآن الاختراقات النوعية التي توختها اسرائيل منها.
ووفق الإعلام الاسرائيلي، فإنّه حتى الآن لا يزال ضباط اسرائيليون يقولون باستحالة إعادة سكان الشمال، وخصوصاً انّ «حزب الله» ما زال بعيداً عن الهزيمة. وكرّروا قولهم إنّهم «ضدّ بقاء قوات الجيش في جنوب لبنان، ليتحوّل الجنود الى أهداف ثابتة لـ«حزب الله».
يتزامن ذلك مع ما ذكره مركز «بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية» بأنّ الاستراتيجية الاسرائيلية لا تسعى إلى نزع سلاح «حزب الله» بالقوة، بل إلى التوصل إلى اتفاق سياسي ما، على الأرجح اتفاق يتقمّص روح القرار 1701. ونظراً إلى أننا تعلّمنا جميعاً من التجارب مدى صدقية آليات نزع السلاح لدى أعدائنا، فإنّ المعنى الاستراتيجي هو أنّ الحرب الحالية في لبنان ليست سوى مقدّمة للحرب القادمة.
وفي السياق ذاته، نشر موقع «القناة 7» العبرية مضمون رسالة لمجموعة من أمهات الجنود الإسرائيليين موجّهة إلى وزراء وأعضاء في الكنيست، جاء فيها: «لا تتركوا أطفالنا في الوحل اللبناني، لا يمكننا أن نثق بحكومة تعرّض أطفالنا للخطر في حرب تخوضها من دون استراتيجية سياسية ومن دون استنفاد البدائل الديبلوماسية الممكنة .. ليس لدينا أطفال لحروب ليس لها أهداف سياسية».
وأعاد نشر كلام سابق للرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الاسرائيلي غيورا ايلاند للقناة 12 العبرية، وفيه أنّه «في اطار القتال الحالي، لن تحقق اسرائيل النصر المطلق في غزة ولبنان، فـ«حماس» و«حزب الله» لن يستسلما،. وانّ استمرار القتال على الجبهتين لا يخدم مصلحة اسرائيل، لذلك من الصائب ان نفتح الباب امام ترتيبات سياسية على الجبهتين».
الصورة : من القصف على الكورنيش البحري لمدينة صور (نقلا عن الجمهورية).