كتب بشارة غانم البون من باريس في "موقع 180 بوست" ماذا عن نتائج "المؤتمر الدولي لدعم سكان لبنان وسيادته" الذي استضافته باريس، وما هي أجواء اللقاءات السياسية والاتصالات الديبلوماسية التي رافقت هذا المؤتمر وتناولت مجريات الأوضاع في لبنان من مختلف جوانبها؟
قلّل كثيرون من أهمية انعقاد المؤتمر الدولي الذي بادرت فرنسا بالدعوة إليه، وعدّد هؤلاء الكثير من الأسباب؛ أكان بالنسبة لمستوى تمثيل المشاركين المتدني أو بالنسبة لقيمة المساهمات المالية التي خرج بها المؤتمر على صعيد تقديم المساعدات الإنسانية الطارئة للبنان أم بالنسبة لانعدام النتائج السياسية والديبلوماسية والاكتفاء بـ”اعلان النوايا” أو التعبير عن “التمنيات”.
وقد ردّت الأوساط الفرنسية معتبرة أنه لم يكن من السهل الدعوة إلى مؤتمر دولي يهدف إلى تعبئة المجتمع الدولي في غضون أيام قليلة وبعد أقل من شهر على بداية التطورات المتسارعة في لبنان وتأمين استجابة من أكثر من سبعين دولة وأكثر من عشرين منظمة دولية وإقليمية إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص، وذلك بالرغم من تزامن انعقاد هذا المؤتمر مع لقاء دول “البريكس” المقرر سابقاً واضطرار عدد من وزراء الخارجية المشاركة في اللقاء المذكور. كما أن المبالغ التي تم الإعلان عنها فاقت التوقعات، إذ أن الورقة التحضيرية اللبنانية الفرنسية نصت على مبلغ 400 مليون دولار في حين توصل المؤتمر إلى مبلغ 800 مليون دولار كمساعدات إنسانية طارئة إضافة إلى 200 مليون دولار مخصصة لمساعدة القوات المسلحة اللبنانية وخصوصاً الجيش اللبناني. وفي هذا الإطار، رأى مصدر لبناني شارك في المؤتمر أنّ “مجرد انعقاد المؤتمر في هذا الظرف بالذات وتسليط الضوء على الأحداث الخطيرة التي يمر بها لبنان هو دلالة على الاهتمام الدولي بلبنان وأنه ليس وحيداً وليس متروكاً لمصيره”.
ماذا بعد مؤتمر باريس؟
تشير الأوساط المطلعة في باريس إلى أن اللقاءات التي جرت على هامش المؤتمر والاتصالات التي رافقته أظهرت أن هناك متابعة حثيثة ومستمرة للوضع اللبناني على خمسة مسارات:
أولاً؛ المسار الإنساني:
عُلمَ أن “مركز خلية الأزمة والدعم” التابع لوزارة الخارجية الفرنسية سيتولى مهمة متابعة تنسيق المساعدات الطارئة خصوصاً وأن هناك حرصاً من الدول المانحة في أن تتم عملية التوزيع بواسطة وكالات الأمم المتحدة المتخصصة والمنظمات غير الحكومية، وبالتنسيق مع هيئة الطوارىء التي أنشأتها الحكومة اللبنانية.
ثانياً؛ مسار دعم القوات المسلحة (الجيش اللبناني):
على صعيد المساعدات العسكرية المُلحة سيكون التواصل مباشراً مع قيادة الجيش اللبناني لتأمين المطلوب على أن يُعقد لاحقاً مؤتمر مخصص لهذا الموضوع الحيوي في ضوء ما سيتم التوصل إليه سياسياً وديبلوماسياً من رسم للدور المحوري والمهمات المستقبلية للجيش اللبناني في إطار تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة (المرجح أن تستضيف روما هذا المؤتمر).
ثالثاً؛ مسار التواصل الديبلوماسي:
تتجه الأمور في الفترة المقبلة نحو ترتيب الأوضاع الميدانية على مراحل، أولها، يشمل وقف العمليات الحربية أو القتالية (تكون بمثابة هدنة مؤقتة) على أن تليها مفاوضات تتناول، ليس صدور قرار دولي جديد (نظراً لاستحالة الحصول على إجماع عليه)، بل التوصل إلى “تفاهم أمني كامل وشامل” يتعلق بكل الإجراءات العملية والتفصيلية المرتبطة بـ”التطبيق الكلي” لمندرجات القرار 1701 (تحديد وتوزيع المهمات بين الجيش اللبناني والقوات الدولية العاملة في الجنوب مع تعزيز وتشديد الرقابة على المرافق والمعابر الجوية والبحرية والبرية)، ومن بين المقترحات أيضاً اشراف مجموعة متعددة الجنسيات من قبل القوى الدولية الفاعلة والمعنية للسهرعلى آلية تنفيذ وتطبيق مضمون القرار، على أن تشكل كل هذه الإجراءات العملية المدخل الجدي إلى “اتفاق دائم” لوقف اطلاق النار.
رابعاً؛ مسار التسوية السياسية:
تكثيف المساعي من أجل الإسراع في ملء الفراغ الرئاسي واعادة تفعيل المؤسسات الدستورية واطلاق ورشة بناء البلد، حجراً وبشراً. وتُعوّل الجهات الدولية المعنية على “دور محوري” لرئيس مجلس النواب نبيه بري لأهمية موقعه المزدوج (شيعياً ووطنياً). وتشير المعلومات إلى أنه إضافة للمرشحين الرئيسيين (سليمان فرنجية وجوزف عون)، فإن الأسماء الأخرى المدرجة على اللائحة القصيرة لمرشحي “التوافق” (بأكثرية الثلثين) باتت تتوضح مواقف الفرقاء حيالها، والجديد فيها أن أكثر من اسم غير متداول حتى الآن (ويُمكن أن يُشكّل مفاجأة) انضم إليها في الأيام القليلة الماضية.
خامساً؛ المسار الأمني الداخلي:
تُسارع الأوساط المتابعة للملف اللبناني إلى التذكير برسائل التحذيرات التي أوصلتها فرنسا إلى المعنيين في لبنان والتي سبقت الأعمال الحربية الإسرائيلية ضده مُنبّهة من خطر “الجنون” داخل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو حيال لبنان وعدم التعامل معها بالجدية اللازمة. من هنا تشير هذه الأوساط إلى مخاوف حقيقية وجدية (مبنية على معلومات وتقارير) بالنسبة لمستقبل الوضع الأمني الداخلي وخطر زعزعة الاستقرار وضرب السلم الأهلي بفعل ارتفاع نسبة التوتر في ضوء “قنبلة” النزوح اللبناني الداخلي وتفاقم الأزمات الإجتماعية والمعيشية المرتبطة بها وخطر استغلال بعض الجهات الخارجية هذا المناخ من أجل تعميق الشرخ وزرع بذور الفتنة ومن ثم اشعالها والعمل على تأجيجها.
وكيف السبيل إلى التقدم في هذه المسارات؟
تقر هذه الأوساط أن عملية التقدم ستكون “صعبة ومعقدة وطويلة”، وتشير إلى ارتباطها بشكل وثيق بإرادة جهتين أساسيتين هما إسرائيل وإيران، معتبرة أن التعامل مع كل منهما ليس سهلاً. وتوقفت عند تدهور العلاقات بين باريس وتل أبيب حيث أن الجانب الفرنسي وجّه في الأيام الأخيرة وبشكل متكرر وعلى كل المستويات الرسمية (من رئيس الجمهورية مروراً بوزير الخارجية وصولاً إلى وزير الدفاع) انتقادات قاسية غير مسبوقة إلى نتنياهو (بلغت حد اتهامه بالقيام بعمليات وصفت بالبربرية وهو الذي يدعي الدفاع عن الحضارات) وعدم احترامه موجبات القانون الدولي وانتهاك سيادة الدول وتجاوز كل الخطوط الحمر، وذلك بالرغم من انتقادات بعض وسائل الإعلام الفرنسية لهذه المواقف.
ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من ابقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع حزب الله برغم الإنتقادات الداخلية التي وُجّهت إليها، لم توفر باريس سهامها حيال ما وصف بـ”هيمنة” طهران على قرارات حلفائها في المنطقة وتسخير نفوذها لأجندتها الخاصة. وحسب هذه الأوساط، فإن كلاً من طهران وتل أبيب لن تكشفا توجهات سياستهما المستقبلية الفعلية قبل اتضاح خطط الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
وحسب المعلومات التي وصلت إلى العاصمة الفرنسية، فإن “دوراً ما” أوكل إلى الأردن وذلك على خط موازٍ لما تقوم به الرياض والقاهرة والدوحة، ووضعت في هذا الإطار خطوة استقبال عمان لكل من رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي ومن ثم قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. كما أن وزير الخارجية الاردني أيمن الصفدي، الذي لاقى ترحيباً خاصاً من الرئيس ماكرون بمناسبة مشاركته في مؤتمر باريس، توجه إلى لندن لمتابعة اتصالاته ومشاوراته مع وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن.
وهل من “بركة” تُرجى من هذه “الحركة”؟
تشير الأوساط المتابعة إلى أن ثمة إشارات مشجعة تلوح في الأفق إلا أن ترجمتها على أرض الواقع بات مرتبطٌاً بمعطيات عدة منها الانتخابات الرئاسية الأميركية والتوجهات السياسية الاسرائيلية والإيرانية، فضلاً عن معطيات الميدان في جنوب لبنان.
ولا تعفي هذه الأوساط القيادات اللبنانية من المسؤولية، صحيح أنها ترى أن البلد يعاني من “صراعات الآخرين على أرضه”، إلّا أن هذه القيادات عليها ألا تكون مجرد أدوات في أيادي “الآخرين” أياً كانوا بل “الالتقاء والعمل معاً باستقلالية ووطنية وتجرد والتخلي عن الإنكار والتعامي والتكاذب والأنانية من أجل تجاوز هذه المرحلة المصيرية التي تُهدّد ديمومة البلد واستمرارية تركيبته الهشة وصيغته التي تتميز بالتنوع والتعددية”، وبالتالي اغتنام فرصة النافذة المفتوحة للحد من الخسائر وإلا ولوج باب الانهيار!