كتب يوسف كليب في "موقع 180 بوست" التالي : الإعتداء الإسرائيلي المحدود على أهداف على الأراضي الإيرانية هو نتاج هندسة الإدارة الأميركية. ما فعله العدو الإسرائيلي بعد ثلاثة أسابيع من التهديدات هو مجرد محاولة لحفظ ماء الوجه وفقاً للمعايير الأميركية. إسرائيل أبلغت إيران، عبر وسطاء قبيل الهجوم بساعات، حول ماهية ردّها وحجمه وأهدافه!
انتهت هذه الجولة الإسرائيلية الإيرانية قبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. ادّعت إسرائيل أنها ضربت عشرين موقعاً عسكرياً إيرانياً، بينما سخّفت إيران الرد وقالت إن خسائرها محدودة، مما يدل على قرار طهران باحتواء الهجمة الإسرائيلية ولو أن المرشد الإيراني علي خامنئي أعطى أوامره للمؤسسة العسكرية بالرد، ما يعني عملياً الإحتفاظ بحق الرد في انتظار التوقيت الذي تعتقده طهران مناسباً وفقاً لتطور الواقعين الإقليمي والدولي.
بدوره، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حفظ آخر الخطوط مع الإدارة الديموقراطية ولو من باب احتمال وصول المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس إلى البيت الأبيض، وبالتالي قياس توقيت الضربة على مسافة معقولة من الانتخابات، بما يضع الكرة في حضن إيران أولاً. وطالما أن الضربة الإسرائيلية لم تضر بالقدرات الإيرانية الحيوية ـ من وجهة نظر طهران ـ فإنّها وفّرت للإيرانيين هامشاً يجعلهم أمام خيارات عدة.
هكذا يُمكن لإيران أن تُمرّر الأسبوع الأخير قبيل موعد الانتخابات الأميركية من دون اضطرارها لرد عاجل يُمكن أن يفيد نتنياهو في سعيه لتوريط أميركا بالحرب مباشرة، فضلاً عن جعل حظوظ المرشح الجمهوري دونالد ترامب تتقدم على هاريس؛ يُفضي ذلك للقول إنه من مصلحة إيران أن تُبقي ورقة الرد على الضربة الإسرائيلية سلاحاً في يدها، إلى ما بعد الانتخابات الأميركية.
تسييل الانتخابات
ترغب هاريس بإنجاز تسوية ما للملفين اللبناني والفلسطيني (غزة تحديداً) قبل دخولها إلى البيت الأبيض إذا أمكنها ذلك، لأنها، إن فازت، ستجد أمامها استحقاقات كبرى، داخلياً (اقتصادياً واجتماعياً) وخارجياً (تحالفات وعلاقات دولية).
وإذا استشعر نتنياهو وجود فرصة عالية أمام هاريس، وهو أمر ضعيف جداً، من غير المستبعد أن يُبادر إلى تسليف الإدارة الديموقراطية إبرام تسوية ما تجنّب واشنطن أعباء الحرب في المنطقة. أما إن بقي مراهناً على فوز ترامب، فإنّه سيُمرّر الأيام المقبلة بمزيد من المراوغة السياسية والتصعيد العسكري.
تعقيدات.. وتشابكات
أما إيران فلها حساباتها غير البعيدة أيضاً عن الإنتخابات الأميركية. لا تريد طهران مساعدة نتنياهو عبر فعل ما يُعزّز فرص ترامب في مواجهة هاريس. (نموذج التسريب الأخير للمعلومات حول الضربة الإسرائيلية، الأمر الذي أشعل شكوكاً في إسرائيل حول قيام إدارة جو بايدن بتسريب المعلومات لإيران لعرقلة ضربة نتنياهو على قاعدة مصلحة الأخير بوصول ترامب). الجدير ذكره أن إيران تُفضّل التعامل مع الديموقراطيين الذين وقعوا قبل تسع سنوات الاتفاق النووي في عهد باراك اوباما، لكن ترامب سارع إلى نحر الاتفاق فور وصوله إلى البيت الأبيض.
وثمة مفارقة لافتة للانتباه أنّه مقابل حماسة إيران لوصول هاريس، تتبدى حماسة روسية لوصول ترامب تتقاطع مع مصلحة إسرائيل، الأمر الذي يطرح علامات استفهام حيال ما يُمكن أن يحصل من مقايضات في حال وصول المرشح الجمهوري.. مقايضات حتماً ستكون في مصلحة جهة على حساب جهة أخرى!
مع العلم أن إيران وروسيا تتجهان نحو شراكة استراتيجية شاملة، بدأت مظاهرها السياسية والعسكرية تلمع في الشرق الأوسط. لكن في الوقت نفسه، تجتمع حسابات روسيا وإيران على منع الأميركيين من تغيير الخريطة الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
وماذا عن جبهة لبنان؟
حتى أن لبنان صار جزءاً من لعبة الإنتخابات الأميركية، وربّ قائل مثلاً أن عدد الناخبين العرب في ولاية ميشيجن يصل إلى ثلاثمائة ألف بينهم 80 ألف لبناني. يُفسّر ذلك مثلاً عدم تعميم التدمير المتبع في قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان حتى الآن على مدينة بنت جبيل التي تعتبر خزاناً إنتخابياً بكل معنى الكلمة في ميشيجن. ويضع البعض من لبنانيي هذه الولاية الأمر في خانة الضغط الأميركي الذي أدى إلى فعل فعله عند الإسرائيليين، مما يطرح علامات استفهام حول ما ينتظر عاصمة التحرير غداة انتهاء الإنتخابات الأميركية!
ومن الواضح أن الجيش الإسرائيلي يتعرض لضغط ميداني في جنوب لبنان يُترجم بارتفاع الخسائر الإسرائيلية اليومية وبلوغها معدلاً غير مسبوق في أي حرب سابقة.
في الوقت نفسه، يحتفظ حزب الله على الحدود، وفي عمق الجنوب، بمقدار من القوة يخيف المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل من مفاجآت التقدم البري. كما أن الحزب طوّر تكتيكاته في الأسابيع الأخيرة وأدخل أنواعاً جديدة متطورة من المُسيّرات والأسلحة الصاروخية، أنواعاً وأهدافاً وعمقاً.
ومن المفيد ترقب أثر الميدان الجنوبي وما يفعله سلاحا الصواريخ والمُسيّرات في العمق الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً، سواء بازدياد الشرخ بين المستويين العسكري والسياسي أو وجود وجهات نظر متعددة في قلب المؤسسة العسكرية نفسها، فضلاً عن بروز حالات تمرد في الجيش والإحتياط.
والملاحظ أن الإدارة الديموقراطية وطّدت علاقتها بوزير الحرب يوآف غالانت. فانتقد الأخير نتنياهو وحكومته وأخبرهم في رسالة قبل ضربة إيران أن الحرب تشن بدون بوصلة. كما قال في تصريح آخر بأنه لا يمكن تحقيق جميع أهداف الحرب من خلال العمليّات العسكريّة وحدها. شدد غالانت على أهمية القيام بواجبنا الأخلاقي بإعادة أسرانا في غزة إلى منازلهم. سيتعيّن علينا تقديم تنازلات مؤلمة. هو لم يوفر فرصة لإحراج نتنياهو، تمهيداً لإبعاده. فوز هاريس يعزز فرص قيادة وزير الدفاع للمرحلة المقبلة.
نتنياهو، من ناحيته، يراهن على فوز ترامب بوضوح، ويتصرف منذ أشهر على هذا الأساس، لكن مع الاستفادة من ابتزازه لبايدن وحصده للمكاسب والمساعدات منه. عموماً، يتمسك نتنياهو الآن بأوراق عدة. أولها؛ مماشاة الديموقراطيين في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات، فلربما فازت هاريس، مع إبقاء خيار مواصلة الحرب بيده، تحسباً لهامش جديد قد يوفره فوز ترامب. لذلك، لندع جانباً مناخ التفاؤل الذي ملأ المساحات الإعلامية في الساعات الأخيرة.. وأعان الله لبنان وغزة على ما ينتظرهما في الأيام والأسابيع المقبلة.