
لا شيء أكثر إغراءً من تسجيل جلسة بين نبيه بري ووليد جنبلاط. الحديث لا يتعلّق باجتماع الرجلين أمس، بل بأيّ اجتماع بينهما منذ انتخاب الرئيس جوزيف عون مطلع هذه السنة، أو حتى تلك الاجتماعات التي يستعيدان فيها تجاربهما مع سياسيّي لبنان خلال أربعة عقود ونيّف من العمل المشترك. كل الحروب والصدامات التي وقعت بينهما لا وقع لها على العلاقة بين من بات الملل يغمرهم تجاه هذا البلد وناسه والمحيط.
هوس وليد جنبلاط بما بعد الستين كان ثقيلاً. سأل نفسه ما إذا كان سيقتفي أثر أسلافه بالرحيل على أبواب العقد السابع.
فقد طارد الموت قتلاً الجدّ بشير (1775 - 1825)، وجدّه فؤاد (1885 - 1921)، ثم والده كمال (1917 - 1977، والذي استشهد قبل إكماله الستين بتسعة أشهر).
وصار قلقه أكبر وسط خشيته على وريثه تيمور من قسوة المرحلة المقبلة. والأخير، الذي يوحي بقلّة حماسة للزعامة، لن يكون محل اختبار فعلي طالما بقي حضور الأب طاغياً.
نبيه بري، من جهته، لا هاجس وراثة يؤرقه. حظوة الأبناء لا تكفي لبناء إرث كالذي لدى صديقه الجبلي. ويُروى أن جنبلاط قال لبري في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي: «ألا تملّ من هذه اللقاءات؟، أصبحت رئيساً للبرلمان، ولك مكانة في لبنان وأبعد منه، فاذهب وابنِ ما هو أبعد من حدود إمارة البرلمان». فردّ بري: «أنت يمكن أن تختفي خمسين سنة، وعندما تعود ستجد كرسيّك في انتظارك. أمّا أنا فلن أجده بعد يوم من مغادرتي له!».
بري، في السياسة اللبنانية، يشبه كميل شمعون: كائن سياسي لن يتوقف عن العمل طالما أعانه جسده وعقله. وقد كان صريحاً عندما سُئل مرة عن التقاعد، فأجاب: «السياسي، طالما يملك القدرات الذهنية والجسدية على العمل، لن يتقاعد»، فيما كان شمعون أكثر استفزازاً عندما قال: «سأظل في العمل السياسي لربع قرن بعد وفاتي»!
لا متعة أكثر من تسجيل جلسات رجليْن تعبا من «تعليم» سياسيّين ومندوبين ساميّين أو معاشرة من ضاقت بهم السبل
نبيه بري من الزعماء الذين حالفهم الحظ. وهو من بين الأكثر قدرة على فهم طبائع اللبنانيين، مواطنين وزعامات وطوائف ومسؤولين. لكنّه أكثر قسْوةً في مقاربته لحقوق الجماعات اللبنانية.
ولطالما كان يستفزّ خصومه المحليين عندما يقول لهم: «إياكم والمساس بحصّة الشيعة في كعكة هذا النظام». صحيح أن النقاش لا يزال مفتوحاً حول حقيقة ما حصل عليه الشيعة في هذه الدولة منذ أربعين سنة.
وصحيح أكثر أن التدقيق سيظهر أنهم الأقل استفادة من هذه الدولة وقطاعها الخاص. لكنّ بري، كان يعتمد منهجية تقوم على فكرة الحضور من فوق، ويترك لقومه تدبّر أمورهم من تحت.
ورغم أن بري - كما جنبلاط وبقية زعماء الطوائف - يعرف أن كعكة هذا النظام صغيرة جداً وأصابها العفن، إلا أنه لا يجد غضاضة في التمسّك بما يعتبره حصة مشروعة، لكن مع منسوب أعلى من الخوف يحيط به هذه الأيام، كونه لا يرى في كل ما يُطرح حول المقاومة سوى محاولة لإعادة الشيعة إلى وضعية ما قبل عام 1982.
بين بري وجنبلاط قواسم مشتركة في اللعبة الداخلية. وبينهما مسافات ضوئية في النظرة الشخصية إلى أمور الحياة. يحاذر بري كسر الأعراف التي تخصّ منصبه ونوع تمثيله، ولا يستفزّ شيعته في أمر يخصّ طقوسهم، ولا يجنح نحو صفقات تفقده شعبيته بينهم، ويراعي دائماً ما يُفترض أنها حسابات البيت الداخلي، لأن لديه منافسين أقوياء. وربما من حسن حظه أيضاً أن القوة المنافِسة له، حزب الله، لا تملك في برنامجها ما يفرض الإطاحة به، بل على العكس، كما كان يقول الشهيد السيد حسن نصرالله: «من ليس عنده نبيه بري، عليه البحث عن مثيله»!
في المقابل، فإن جنبلاط، المُعفى من المحاسبة داخل القبيلة، لا يقف كثيراً عند خاطر المؤسسة الدينية، ولا خاطر شيوخها الآخذين في التطرّف هذه الأيام، ولا يفرض على أفراد عائلته التزام أي نوع من طقوس الحياة والسفر والزواج كبقية الدروز.
ومع ذلك، يدرك أن خدمة قومه تفرض عليه التعامل وفق قوانين العشائر، فيناصر المحازبين ولو كانوا ظالمين، وينفق من خزنته عندما تشتدّ وطأة العيش، و - كما بري - يقاتل لعدم المسّ بحصته داخل النظام. وحتى عندما يربح منافسوه داخل الطائفة، يكون شريكاً في ربحهم، أو على الأقل مساهماً في تحصيله.
في هذه الأيام، حيث يسيطر الملل على صالونات قادة القوم وكبارهم، يجد بري وجنبلاط في لقاءاتهما فرصة للتندّر على حال السياسة في لبنان.
لكنهما يضطران، في نهاية كل اجتماع، إلى البحث عن طريقة لتحسين آلية التواصل مع من يحتلون المناصب المقابلة لهما، في زعامة الطوائف أو قيادة مؤسسات البلاد.
وفي كل مرة يأتي فيها رئيس جديد للجمهورية، أو الحكومة، أو يهبط على لبنان مفوّضون من دول الوصاية العربية أو الأجنبية، يتصرّف الرجلان على أنهما أمام مهمة شرح «دليل لبنان» لهؤلاء. ولا بأس أن سمعوا ملاحظة قاسية من هذا أو ذاك.
وحالهما هذه الأيام، مع مندوبي السعودية وأميركا، لن يكون أكثر قسوة من حالهما مع مندوبي سوريا في العقود السابقة.
لكن، ما يهمّ الرجلين أنهما يعودان في آخر النهار، لينظرا إلى من يقف قبالتهما في هذه الدولة، منتزعَيْن ما يريدان من حصص في الإدارة والاقتصاد والمالية العامة.
وإذا ما تجرّأ أيّ «جديد في الحكم» على النظر إليهما بعين المعترض، عالجاه بقسوة غير مسبوقة، قائلَيْن له: ها نحن هنا، لم نمت بعد! (نقلا عن الاخبار)
الصورة : (هيثم الموسوي)