
كتبت صحيفة "الجمهورية": العالم مزدحم بالأحداث والمخاطر، وكلّ منصّات الرصد والمراقبة، تجد عناءً كبيراً جداً في تتبع مساراتها، ومحاولة إدراك ما تختزنه من مفاجآت، وما تنذر به من تحوّلات ومتغيّرات على أكثر من ساحة دولية وإقليمية. والعيون على الجبهة الأوكرانية التي تتقاطع تقديرات المحللين والمتابعين عند ترجيح انحدار فيها إلى تصعيد غير مسبوق، وكذلك على غزة التي تتقلّب فوق بركان تدميري، مصيرها بات معلّقاً على "خطة ترامب" ودفتر الشروط القاسي على حركة "حماس". وأيضاً على إيران التي تحوم في أجوائها سيناريوهات واستعدادات لمواجهات حربية أقسى وأعنف، وربما أشمل من حرب حزيران الفائت. وأما على جبهة لبنان، فكلّ الاحتمالات واردة.
الأيام المقبلة كفيلة بتحديد صورة هذا المشهد الملبّد، وتوضيح مساراته وما عليها من مفاجآت وتداعيات على الدول، خصوصاً في هذه المنطقة الملغومة بالتوترات والحروب المجهولة المدى الذي ستبلغه. ولعلّ الصورة الحائزة على أعلى درجات النفور في موازاة هذا المشهد، هو فقدان التوازن والبصر والبصيرة والسمع، الذي يسود المشهد اللبناني، بدفع دؤوب من مكونات سياسية، ثبت للقاصي والداني أنّها متموضعة وبثبات، على هامش ما يجري من حول لبنان والمنطقة وعليهما، لا تتقن سوى إحداث الصخب السياسي والإعلامي وتوريم أحجامها والإفراط في كلام أكبر منها، بما لا يغيّر في حقيقة أنّها محصورة ضمن مساحات غير مرئية أمام التحدّيات الكبرى، وسقف طموحاتها منخفض إلى حدود التركيز فقط على محاولة تحقيق بعض المصالح والمكتسبات الصغرى، وتحديداً على حلبة الانتخابات النيابية المقبلة.
قلوب مليانة
ضمن هذا السياق، تندرج الأزمة السياسيّة الراهنة، والمرشحة إلى مزيد من التفاعل في أي وقت، إن على مستوى الخلاف الجوهري حول سلاح "حزب الله" في ظلّ بقاء هذا الأمر جمراً تحت الرماد، وتحفّز داعمي قرار سحب السلاح ورافضيه للاشتباك السياسي، او على مستوى العلاقات بين السلطات التي ضربتها "أزمة الروشة" بخلافات عميقة وحماوة سلبية والتباسات، لم تنجح في تجميلها أو تبديدها او تبريدها اللقاءات البروتوكولية بين بعض المستويات الرسمية.
وعلى حدّ توصيف مطلعين على هذه العلاقات، "فإنّها باتت محكومة بقلوب مليانة، وخصوصاً أنّ ما سبق، ورافق، وأعقب حادثة الصخرة، من تسرّع وانفعال واستهداف غير مبّرر للمؤسسة العسكرية، وهجومات قاسية ومنظّمة على مرجعيتها السياسية والعسكرية، و"تنقيرات" متعمّدة من قبل جهات سياسية تصنّف نفسها سيادية وتغييرية، على العهد الجديد برئاسة الرئيس جوزاف عون، ظهّر إلى العلن ما هو مبيّت في القلوب من غايات سلبية ونوايا مريبة".
يُشار في ما خصّ أزمة الروشة، إلى أنّ النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، سطّر بلاغي بحث وتحرٍ بحق شخصين ممن توافرت أسماؤهم من المسؤولين عن إضاءة صخرة الروشة يوم الجمعة الماضي. وأُفيد بأنّ هذا الإجراء جاء بعدما جرى استدعاء هذين الشخصين إلى التحقيق ورفضا المثول.
وكان رئيس الحكومة قال خلال استقباله وفداً من أهالي بيروت ضمّ حقوقيين وإعلاميين وأكاديميين إن قضية صخرة الروشة لم تنته، خصوصاً أن النائب العام التمييزي سطّر بلاغَي بحثٍ وتحرٍّ بحق شخصين تم استدعاؤهما إلى التحقيق لكنهما تمنعا عن المثول.
وأوضح أن "جهة معينة طلبت ترخيصاً للقيام بمسيرة وهذه الجهة خالفت الترخيص، وتالياً فهي سقطت في تعهداتها ومصداقيتها، ومن لا يحترم القانون سوف ينال جزاءه". كما أوضح "ان التعميم الذي أصدره حول وجوب الالتزام بالقوانين الناظمة لاستخدام الأملاك العامة والمعالم الوطنية، جاء لدرء الفتنة وحماية السلم الأهلي في وسط شحن يسود البلد".
وذكّر بأن البلد "مرّ بقطوع أصعب من قضية صخرة الروشة، لا سيما تسكير طريق المطار حيث تدخلت الأجهزة الأمنية وعملت على فتحه أكثر من مرة، وكذلك الأمر مع الظهور المسلح لمناسبة إحياء عاشوراء وأيضاًَ تدخلت القوى الأمنية وأوقفت المسلحين"، مشدداً على "أن زمن الظهور المسلح انتهى".
تأكيد رسمي
في سياق متصل، ليس معلوماً ما قد تفرزه "القلوب المليانة" في الآتي من الأيام، أكان على الصعيد السياسي او الحكومي او الوزاري، الّا انّ ما هو معلوم وواضح للعيان على الضفة السياسية المقابلة، هي الإشعال المتعمّد لورقة الانتخابات النيابية، وإحاطة هذا الاستحقاق بصخب سجالي وممارسات من قبل جهات سياسية ذات اللون السيادي، بدت وكأنّها تضع مطبّات وعراقيل في طريق الانتخابات لعدم إجرائها في موعدها، وبالتالي تأجيلها لسنة او سنتين، وفق ما يتردّد صراحة في أوساط تلك الجهات. وضمن اللعبة التعطيلية يندرج أداؤهم الأخير بتطيير نصاب الجلسة التشريعية قبل ايام.
وعلى ما تؤكّد الوقائع والاستعدادات السياسية للاستحقاق النيابي، فإنّ المناخ الانتخابي هو الطاغي على ما عداه من أولويات وملفات داخلية، والصخب السياسي والإعلامي يبدو أنّه يمهّد لأزمة محتدمة بين من يريد للانتخابات أن تجري في موعدها، وبين من يسعى إلى تأجيلها بأيّ وسيلة لسنة او اكثر.
على أنّ الراجح حتى الآن هي الغلبة لإجراء الانتخابات، ربطاً بالأكثرية السياسية الراغبة في ذلك، في مقابل أقلية ترغب في التأجيل. وضمن هذا السياق يأتي موقف رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي عرض مع وزير الداخلية احمد الحجار المراحل الإعدادية للاستحقاق النيابي، وأكّد على إجراء الانتخابات في موعدها في شهر أيار المقبل، وإنجاز كل الترتيبات المتصلة بها ضمن المهل القانونية. وفي السياق نفسه، صبّ موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي قابل محاولات تجاوز قانون الانتخابات بتأكيده انّ هناك قانوناً انتخابياً نافذاً، وليس ما يمنع ان تجرى الانتخابات وفق أحكامه.
فيما برز موقف رئيس الحكومة نواف سلام، الذي شدّد في كلمة ألقتها باسمه وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد، أثناء تمثيلها له في الندوة التي نظّمتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة "على وجوب "الإلتزام الجازم بإجراء الانتخابات في موعدها المحدّد، من دون أي تأجيل أو تعطيل مع ضمان حقّ جميع اللبنانيين، المقيمين وغير المقيمين، في الاقتراع العادل والشفاف ضمن دوائرهم.
وقال: "أمام النقاشات التي ترافق ملف الإصلاح الانتخابي، أجد لزاماً عليّ أن أؤكّد على ثوابت الحكومة وثوابتي الشخصية في هذا الإطار، لناحية تأمين ظروف انتخابية آمنة وشفافة تتيح للبنانيين المشاركة بحرّية، ولا سيما لأهلنا في الجنوب، حيث لا يمكن أن يُعاقَب من فقدوا منازلهم وقراهم بحرمانهم من حق الاقتراع، كما تكريس مبدأ الكوتا بنسبة لا تقلّ عن 30 في المئة لكلا الجنسين في اللوائح، ضماناً لتمثيل أكثر عدلاً لجميع مكونات المجتمع، مع تشجيع النساء ودعمهن للانخراط في العملية الانتخابية بجميع مستوياتها: إشرافاً، وتنظيماً، وانتخاباً، وترشيحاً".
إتهام .. وردّ الإتهام
والواضح في هذا السياق، انّ "القوات اللبنانية"، مرفودة بكتل نيابية صغيرة وبعض التغييريين المستفيدين من أصوات المغتربين، تتصدّر الحملة لفرض تصويت اللبنانيين المنتشرين لكل المجلس. وحمّل مصدر سيادي رئيس المجلس مسؤولية عدم الاستجابة لمطالبة اكثر من 60 نائباً بطرح اقتراح المغتربين على الهيئة العامة للمجلس لإقراره، وقال لـ"الجمهورية": "انّ المعركة ستستمر لتحقيق هذا الأمر، وإحباط المحاولة المكشوفة المرامي والأبعاد، لحرمان المغتربين، او بالأحرى لسلبهم حقهم في انتخاب كل نواب المجلس وشراكتهم في تقرير سياسة بلدهم".
وعمّا إذا كانت مقاطعة جلسات مجلس النواب على ما جرى في الجلسة التشريعية وإفقادها النصاب، سارية على كل جلسات المجلس اللاحقة، قال: "مقاطعة أعمال مجلس النواب ليست فعلاً آنياً فقط، فأمامنا معركة طويلة وسنخوضها بكل ما أُوتينا لتصويب المسار وإعادة تأكيد هذا الحق للمغتربين، ومنع التعاطي معهم وكأنّهم لبنانيون درجة ثانية".
وأما على الضفة المقابلة الرافضة لإشراك المغتربين في التصويت لكل المجلس، فتبدو الصورة مختلفة جذرياً، ويؤكّد مسؤول سياسي كبير رداً على سؤال لـ"الجمهورية": "إنّ التباكي الذي نراه ليس على حق المغتربين بالتصويت، بل على مقعد بالزايد هنا وهناك، هذه هي حقيقة مسعاهم ولا تحجبها أي محاولة من قبلهم لتغليفها بالحديث عن العدالة، وحق الاغتراب، والوطن الأم، ومساواة المغترب بالمقيم، وما شابه ذلك من عناوين وشعارات".
ولفت إلى "انّ عملية التجييش التي يفتعلونها لن توصل إلى أي مكان، هم شاطرون بالتصعيد والضخ الإعلامي والدعائي، ولكن هذه الشطارة او التشاطر لا ينفع في الكثير من الأحيان. نحن نفهم أنّ تصعيدهم مردّه إلى شعورهم بأنّ الرياح ليست مؤاتية لمصلحتهم، ولذلك يرفعون صوتهم، ويريدون من الآخرين أن يماشونهم في ذلك، وهذا امر عجيب غريب".
ويذهب المسؤول الكبير في مقاربته لما سمّاه "التصعيد السيادي" على حلبة الانتخابات النيابية، إلى وصفه بمراهقة سياسية موصوفة، ويقول: "يقبلون بالشيء ثم يرفضونه. فتلك الجهات عند إعداد القانون الانتخابي النافذ، كانت أكثر المتحمسين لإقراره بالصيغة التي أُقرّ فيها لناحية إشراك المغتربين في الانتخابات لكل اعضاء المجلس النيابي لمرّة واحدة، على أن تُحصر شراكتهم في الانتخابات التالية (اي الانتخابات المقبلة) في التصويت للنواب الستة الموزعين على القارات الست. ولكن عندما درسوا أوضاعهم وأجروا حساباتهم وجدوا انّ القانون الانتخابي النافذ قد يقلّص أحجامهم، نسوا حماستهم تلك وناقضوا انفسهم وغيّروا رأيهم ورفعوا لواء المغتربين، ويريدون أن يقنعونا بأنّهم حريصون على المغتربين وحقهم في الانتخاب"!
رؤساء الحكومات
إلى ذلك، استنكر رؤساء الحكومات السابقون: نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، وتمام سلام، "استمرار العدو الإسرائيلي في الاعتداء على جنوب لبنان (أسفرت اعتداءاته امس عن استشهاد مواطن وإصابة 5 آخرين بجروح في بلدة كفرا)، واكّدوا وجوب إلزام إسرائيل وقف عدوانها، وإنهاء احتلالها الأراضي اللبنانية بما في ذلك الانسحاب من النقاط والتلال الخمس التي احتلتها في الجنوب اللبناني".
وكرّر الرؤساء في بيان: "إشادتهم ودعمهم وتمسكهم بقرارَي مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وضرورة تطبيقهما، والإصرار على متابعة تحقيق هذا الهدف من دون أي تراجع أو تردّد"، وشدّدوا على انّ "المصلحة الوطنية العليا تقتضي تجاوب الجميع مع حصرية السلاح بيد القوى الشرعية اللبنانية. فهذا القرار يجب ان يُنفّذ عاجلاً لتكون الدولة اللبنانية وحدها مسؤولة عن أمن البلاد والمواطنين".
بدوره، أسف مجلس المطارنة الموارنة في بيانه الشهري "لما جرى في الأيام الأخيرة من مخالفةٍ لأوامر الدولة وقوانينها"، وأمل "أن تكون المناسبات الساسيّة سعيًا لجمع الكلمة وترميم الوحدة الوطنية".
وتمنّى المطارنة على الفرقاء "العودة إلى تحكيم العقل وتغليب الحسّ الوطني والمصلحة الوطنية العليا والتعالي على الجراح والاحترام المتبادل، لأنّ الوطن بحاجة إلى الإنقاذ وإلى مساهمة الجميع في إعادة بنائه". وأملوا "من الفرقاء السياسيّين إعتماد الحوار والسبل الحكيمة الآيلة إلى السير الطبيعي والديمقراطي للعمل التشريعي في البرلمان، ولتهيئة الانتخابات النيابية في موعدها، ولمعالجة الشؤون الوطنية المصيرية".
إحياء "13 تشرين"
من جهة ثانية، يتحضّر "التيار الوطني الحر" لإحياء ذكرى شهداء 13 تشرين الأول 1990 السبت المقبل 11 تشرين الأول، وذلك في "الفوروم دو بيروت". وقد ركَّز التيار في المواكبة الإعلامية والإعلانية للحدث، على محورية الجيش اللبناني كمجسدٍ للشرعية والدولة والسيادة، وهي المسلّمات التي استُهدفت في تلك المحطة الأليمة في تاريخ لبنان. كما عمل التيار، بحسب ما علمت "الجمهورية"، على توسيع دائرة الدعوات على المستويات الروحية والسياسية والإعلامية.