كتب حسين ايوب في "180 بوست" التالي : حتماً ستنتهي حرب غزة خلال أسابيع قليلة. بعملية عسكرية إسرائيلية في رفح أم من دونها. وما أن يبدأ تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل، سترتسم ملامح مرحلة جديدة في الإقليم لن يكون لبنان بمنأى عن تداعياتها الآنية.. والمستقبلية.
كان تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تاريخاً فاصلاً على مستوى المنطقة. اليوم تتبدّى أمامنا محطة الإنتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. انتخابات باتت هي العنصر الأبرز الناظم لسلوكيات ومواقف الكثير من قادة الدول؛ بين من يتمنى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وعلى رأس هؤلاء فلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو وكيم جونغ أون ورجب طيب أردوغان ومعظم اليمين الشعبوي الأوروبي المتطرف.. وحتماً ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؛ وبين من يتمنى فوز جو بايدن بولاية رئاسية ثانية، وبين هؤلاء قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وملك الأردن وغيرهم قادة كثر في المنطقة والعالم!
هذه المشهدية الكاريكاتورية تكفي للقول إن حلفاء البيت الواحد سيكونون عملياً بمنازل كثيرة. حسابات القيصر الروسي تبدو مختلفة عن حسابات المرشد الإيراني السيد علي خامنئي. يسري ذلك على واقعنا العربي. الأميركيون يستشعرون هذا النفس ويُدركون أنه حتى عندما بعث السعوديون برسائل علنية توحي بدعم فوز بايدن بولاية ثانية، إلا أنهم كانوا ـ من تحت الطاولة ـ يمارسون فعلاً يشي بعكس ذلك!
لا يعني ذلك أن فوز ترامب مثلاً سيكون نهاية الكون للإيرانيين ولا العكس بالنسبة للسعوديين. ورثة الإمبراطورية الفارسية برغماتيون حتى نخاعهم الشوكي. ولن يُقدِم فلاديمير بوتين (أو بن سلمان) على الإنتحار إذا جدّد بايدن ولايته، غير أن العبرة الأبرز من محاولة توصيف هذه الإصطفافات المحتملة، أن موسم “البيع والشراء” مؤجل الآن، إلى ما بعد تحديد هوية من سيجلس وراء المكتب البيضاوي في مطلع العام 2025.
صحيح أن إيران تُفاوض أميركا بالمباشر منذ أسابيع بعد توقف المفاوضات بين الجانبين، غداة “طوفان الأقصى” مباشرة، وثمة مؤشرات تجعل الطرفين قادرين على ضبط إيقاعهما باتباعهما سياسة دفاعية إحتوائية، وذلك في سياق إدارة أزمة العلاقات المفتوحة بينهما منذ خروج ترامب من الإتفاق النووي في العام 2018. يُترجم ذلك في المنطقة منذ سنوات بمستوى منخفض من التوتر، إلى أن اندلعت شرارة “طوفان الأقصى” التي فاجأت الأميركيين كما الإيرانيين، وربما كانت موجهة ضد الإثنين معاً، على خلفية ما كان قد تراكم بين طهران وواشنطن، معطوفاً على ما كان يتبدى على خط التسوية العربية ـ الإسرائيلية من تصفية مُعلنة للقضية الفلسطينية ومُضيٍ سافر في خيار التطبيع، وهو مسار كان يُفترض أن يُتوج بخطوات محددة بين الرياض وتل أبيب قبل نهاية العام 2023، ناهيك بدلالات “الممر الهندي” في أكثر من اتجاه.
ولعل زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان إلى بيروت، خير مؤشر إلى ما بلغته المفاوضات الأميركية الإيرانية المباشرة (المستمرة)، على صعيد أكثر من ملف، ولعل الأبرز فيها ملف اليمن، حيث سُجّل إنضباط حوثي كبير في التعامل مع قضية عبور السفن في البحر الأحمر، وتمثلت ترجمته بعبور أكثر من 25 ألف سفينة خلال فترة زمنية معينة بلا عوائق، في خطوة مكملة لضبط كتائب حزب الله في العراق الذين كانوا قد نفذوا أكثر من 160 عملية ضد أهداف أميركية من أصل حوالي 180 هجوماً، قبل أن يعلنوا عن تجميد العمليات غداة عملية “البرج 22”.
وإذا كانت واشنطن وطهران قد حافظتا على منسوب معين من التصعيد في جبهات الإسناد اللبنانية والعراقية واليمنية، منذ أربعة أشهر ونيف، فضلاً عن تحييد “الجبهة السورية” بالكامل لأسباب يطول شرحها، فإن المملكة العربية السعودية “فرملت” اندفاعتها التطبيعية واخترعت ذريعة حل الدولتين وإطلاق المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي وبأفق زمني مفتوح (عشرات السنوات على غرار أوسلو ثم تأتي النتائج معاكسة). وليس خافياً أن ثمة من يُعوّل في الرياض على تجميد هذا المسار إلى ما بعد الإنتخابات الأميركية في ظل سلم أولويات “بنسلمانية” تتلخص بالآتي: ضمان الحُكم (أن يكون ملكاً)؛ الفوز بمعاهدة دفاعية مع أميركا؛ حيازة التكنولوجية النووية السلمية؛ وحيازة تكنولوجيا الصواريخ والمسيرات، على شاكلة الترسانتين الإيرانية والتركية!
لم يكن “حل الدولتين” مطروحاً قبل السابع من تشرين/أكتوبر. أقصى ما نادت به قيادة المملكة هو “تحسين حياة الفلسطينيين”. تغيّرت لغة الخطاب السعودي الرسمي من تسريع التطبيع (مقابلة “فوكس نيوز” الشهيرة مع بن سلمان) إلى تبطيء هذا المسار عبر المناداة بحل الدولتين ووقف اطلاق النار لتبرير الإنضواء الحتمي في مسار التطبيع خلال الشهور المقبلة. الأدهى أنه في موازاة مسار التطبيع، قرّرت المملكة تسريع التطبيع مع طهران، بخطى مضبوطة تحت سقف العلاقات الثنائية بكل أبعادها ولكن مع “فيتو” سعودي على أي جدول أعمال يناقش الملفات الإقليمية حتى الآن.
وبعد أشهر من المكابرة، كان لافتاً للإنتباه أن بن سلمان أعطى لمستشاره السياسي والأمني الأول مساعد العيبان إشارة إطلاق أول حوار من نوعه بين الأمن السعودي وقيادة “فرقة القدس” في الحرس الثوري الإيراني. حوارٌ لم يختبر الطرفان نتائجه حتى الآن، ولكن ذلك لا يُخفي وجود “نقزات” متبادلة؛ فالإيراني يتوجس من تعمد السعودي إضفاء غموض متعمد على كل ما يتردد حول نية المملكة تولي مشروع إعادة إعمار غزة مستقبلاً، حتى أن الإسرائيلي بعث برسائل إلى السعوديين بأن حجم تنازلاته في ملف تبادل الأسرى و”اليوم التالي” قابل للتعديل لمصلحة إعطاء الرياض دوراً على حساب الدوحة في الملف الفلسطيني مستقبلاً.
وبطبيعة الحال، أيقن السعوديون أن الإيرانيين يريدون دفعهم لتعميم نموذج اليمن، أي استنساخ تجربة حوارهم مع الحوثيين والإقتداء بها مع حزب الله في لبنان.. والحشد الشعبي في العراق.. لكن الرياض أبقت الأبواب مقفلة حتى الآن، برغم أن “طوفان الأقصى” جعل بعض دوائر القرار السعودي تطرح السؤال عالياً: رؤية السعودية 2030 لا يمكن حمايتها بالترفيه والحفلات الفنية بل بالسياسة أولاً وأخيراً، وهذا يعني حتمية الإنخراط السعودي في ملفات المنطقة ولا سيما فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، لا سيما في ضوء تجربة حرب غزة التي أظهرت أن كل ملفات المنطقة مترابطة، وتكفي راجمة صواريخ حوثية واحدة لجعل أي “لالا لاند” خليجية.. في مكان آخر. يُستثنى من هذا المناخ السعودي قرار المضي بانفتاحهم على سوريا، وآخر فصوله إعادة فتح القنصلية واستمرار تبادل الزيارات الأمنيةن والديبلوماسية في الأسابيع الأخيرة.
لبنانياً، حاول البعض وضع عودة سعد الحريري إلى لبنان، لمناسبة ذكرى إستشهاد والده، في خانة “التعامل السعودي الجديد” مع لبنان. حقيقة الأمر تقول عكس ذلك. الحظر السعودي ما زال “مُبرماً” حتى الآن وغير قابل للطعن أو المراجعة. ثمة حسابات إماراتية لها علاقة بـ”التزريك” للسعودي من جهة وحسابات حريرية تتصل بانتخابات العام 2026 من جهة ثانية.
في هذه الأثناء، لم يُعدّل السعوديون نظرتهم للواقع اللبناني. حسد من الإندفاعة القطرية من جهة وعجز عن تشكيل بديل لها من جهة ثانية. دعوة الحزب التقدمي الإشتراكي ممثلاً بالنائب وائل أبو فاعور والقوات اللبنانية ممثلة بالنائب ملحم رياشي للقاء وزير الدفاع خالد بن سلمان ومسؤول الملف اللبناني نزار العلولا، بيّنت أن منسوب الإهتمام ارتفع قليلاً ولو بصيغة طرح أسئلة لبنانية. حتى الخماسية نفسها تحوّلت إلى عبء على الخمسة، في ضوء عدم التساهل الأميركي، لا بالشكل ولا بالمضمون، مع أية خطوة يُقدم عليها شركاء الخماسية. الكل يتحسس من الكل والكل يُبخّس بالكل. السعودية تفترض أن تمديد ولاية العماد جوزف عون في قيادة الجيش لسنة إضافية، يُمكن أن ينسحب فوزاً بالطريقة ذاتها في المعركة الرئاسية. الأميركيون حتماً سيرحبون بذلك، لكنهم لن يخوضوا معركة أحد ولن يضعوا “فيتو” على أحد. هذا الموقف صار قطرياً أيضاً. لماذا؟ يجيب الموفد القطري “أبو فهد” القريب من الدوائر الإستخباراتية الغربية ولا سيما الأميركية، فضلاً عن دوره في نقل الرسائل بين “قوة القدس” الإيرانية ووكالة الإستخبارات الأميركية (سي آي إيه) أن بلاده لا تزيح إنشاً واحداً عما يريده الأميركيون!
حتى فكرة إجتماع الخماسية التنسيقي على مستوى وزارات الخارجية بات مؤجلاً. ليأتِ الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت وليُجرّب حظه بعد زيارتين تمهيديتين لكل من الدوحة والرياض. المرجح أن يتبنى الديبلوماسي الفرنسي دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الحوار، ولو وفق صيغة تتجاوز طاولة الحوار التقليدية. لا نية غربية للضغط على رئيس المجلس، سواء بالعقوبات أو بالدورات البرلمانية المتعاقبة. واشنطن تحديداً تحتاج رئيس المجلس في كل ما يتصل بترتيبات ما بعد وقف حرب غزة لبنانياً. الأولوية الأميركية للقرار 1701 وليس لرئاسة الجمهورية. لليونيفيل وليس لبكركي. لأمن إسرائيل وليس للمسيحيين أو غير المسيحيين. هذه العناوين يحتفظ بمفتاحها رئيس المجلس بوصفه الناطق الرسمي باسم “الثنائي”. هذه التوليفة تمت مقاربتها بين بري والسيد حسن نصرالله في اليوم التالي لحرب غزة. تحدّدت الأدوار، بالسياسة والميدان..
وآخر الفصول ما جاء به الفرنسيون إلى “الثنائي” والحكومة اللبنانية بعنوان: “إقتراح ترتيبات أمنية بين لبنان وإسرائيل”.
فعلياً، هذه أول ورقة غير رسمية ولكنها مكتوبة برغم تهافت الإقتراحات والطروحات الغربية (فرنسية بداية ثم أميركية وانكليزية وألمانية إلخ..) منذ الثامن من تشرين/أكتوبر لحظة إنخراط حزب الله في معركة غزة. الورقة مكتوبة بالإنكليزية وليس بالفرنسية (صفحتان “فولسكاب” بلا أية علامة تؤكد أنها صادرة عن جهة رسمية)، وتتضمن مقدمة أبرز عناصرها التذكير بتفاهم نيسان/أبريل 1996.
وتقترح اتخاذ مجموعة خطوات لخفض حدة التصعيد، على أن يكون الهدف “هو فرض قرار جدّي لوقف إطلاق النار، عندما تكون الظروف مناسبة، بهدف ضمان التنفيذ الفعَّال لقرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يظل الأساس لاستقرار الوضع على الحدود”.
وتقترح الورقة “تشكيل مجموعة مراقبة تتألف من الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل، مهمتها مراقبة تنفيذ الترتيبات الأمنية التي سيجري الاتفاق عليها، والتعامل مع الشكاوى التي يمكن أن تقدمها الأطراف”.
وتتألف الخطة الفرنسية من ثلاث مراحل، أولى بلا سقف زمني تتمحور حول وقف العمليات العسكرية في جانبي الحدود وشرح تفصيلي لدور “اليونيفيل”، تليها المرحلة الثانية ومدتها ثلاثة أيام ويمكن القول إن مضمونها إسرائيلي بامتياز (تفكيك مواقع المقاومة وإنسحاب المقاتلين والمنظومات الصاروخية والقتالية 10 كيلومترات وراء “الخط الأزرق” ونشر 15 ألف جندي في جنوب الليطاني وإستئناف الإجتماعات الثلاثية في الناقورة. أما المرحلة الثالثة، فيفترض أن تُنجز خلال عشرة أيام، وتقضي بترسيم متدرج للحدود البرية وفق القرار 1701 و”المشاركة في مفاوضات حول خارطة طريق لضمان إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين وأصول وأسلحة باستثناء تلك التابعة للحكومة اللبنانية وقوات اليونيفيل”.
بطبيعة الحال، رفض الرئيس بري وحزب الله الورقة الفرنسية واعتبرا أنها غير صالحة حتى للتفاوض، ومثلهما فعل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي طلب من الفرنسيين أن يتبنوا الورقة رسمياً حتى يرد عليها رسمياً.. ومن بعدها إختفى الجانب الفرنسي عن السمع.. باستثناء إشارة واحدة أعطاها لرئيس الحكومة بأن باريس ستدعو إلى مؤتمر داعم لتسليح الجيش اللبناني وتمويل زيادة عديده نهاية هذا الشهر في العاصمة الفرنسية.
هل يُمكن لإسرائيل أن تترجم تهديداتها بتنفيذ عدوان واسع ضد لبنان؟
يتصرف حزب الله ميدانياً على قاعدة أن الحرب واقعة ولو أنه يبغضها ولا يريدها لا بل يميل في السياسة إلى فرضية إستبعادها، وهذا ما عزّزته محادثات عبداللهيان في بيروت، برغم تحسس وارتياب الجانب الإسرائيلي من مضمون المحادثات المستمرة بين الإيرانيين والأميركيين و”مناخاتها الإيجابية”!
الأزمة لدى إسرائيل وجودية سواء بإعادة الإعتبار إلى منظومتها الردعية أو إعادة بناء ثقة الجمهور اليهودي بدولته، وهذا يسري على اليهود المقيمين ومن يمكن إستدراجهم إلى الدولة العبرية، وهذان الأمران ممرهما الإلزامي إزاحة خطر وجودي يفوق خطر حماس يقبع عند عتبة عشرات المستوطنات الشمالية!
وماذا عن رئاسة الجمهورية؟
ما زلنا أمام معادلة المرشحين الجديين اللذين لا ثالث لهما الآن: أولهما؛ سليمان فرنجية وخلفه رصيد ثابت منذ سنة وأربعة أشهر من الفراغ، وإن كانت حظوظه صعبة محلياً ومفتوحة إقليمياً، برغم خسارته أكبر سند دولي، أي فرنسا. ثانيهما، جوزف عون، وفرصته اللبنانية موجودة لكنها متحركة (الكتل التي أعطت ميشال معوض وجهاد أزعور..)، كما أن فرصته الخارجية متوفرة، لولا موقف إيران و”الثنائي” الذي لا يريد أن يزيح حتى الآن عن أي حرف من حروف إسم (سليمان فرنجية).
القوى الإقليمية والدولية لديها من الهموم والمشاغل ما يكفيها وهي تحاول ترتيب أوراقها في إنتظار الإستحقاقات المقبلة، وهي كثيرة. لذا رئاستنا مؤجلة حتى إشعار آخر وبعيد.. للبحث صلة.