كتب جوني منير في "الجمهورية" التالي : الوفد القضائي الاوروبي الذي يباشر مهامه بدءاً من اليوم، كان قد أثار عاصفة من التفسيرات منذ الاعلان عن مهمته في لبنان.
وكان من المنطقي هبوب هذه العاصفة نظراً لحال الفساد التي وُصم بها القطاع المالي والمصرفي اللبناني، إضافة إلى الأزمة السياسية الخانقة مع دخول لبنان في شهره الثالث من مرحلة الشغور الرئاسي. ولفت ايضاً انّ موجة الانتقادات الرافضة لقدوم هذا الوفد، عادت وخفتت خلال الايام الماضية، ولكن هذا تفسيره.
في الواقع، أبلغت الجهات القضائية الاوروبية انّ قدومها إلى لبنان يأتي تطبيقاً لمعاهدات واتفاقات كان لبنان قد وقّع عليها بتواريخ سابقة. وايضاً فإنّ الوفد معني حصراً بمتابعة ملف تبييض الاموال، والذي اخذ مداه خلال المراحل السابقة، حيث ادّت ظروف لبنان المصرفية إلى تدفق الامول النقدية للعملات الاجنبية وخصوصاً الاميركية منها إلى المصارف اللبنانية ومنها إلى الاسواق المالية العالمية، وانّ بعض مصادر هذه الاموال يأتي من سوريا ايضاً، ما يفتح الشبهات حول حصول عمليات تبييض واسعة لأموال غير شرعية والمعروف انّ البنك المركزي الاميركي يضع علامات معينة على الارقام التسلسلية للدولار، بحيث يصبح قادراً على تتبع مسار العملة الاميركية التي يشكّك بالقنوات التي تمر عبرها.
وحصر الوفد القضائي لمهمته بمسألة تبييض الاموال، إضافة الى التحذير من استخدام سلاح العقوبات الاوروبية، دفع بالمعترضين في لبنان إلى خفض سقف اعتراضهم. لكنها البداية، فمن يضمن ألّا يدخل الوفد القضائي في ملف الفساد المالي الواسع والمتشعب، كونه متداخلاً الى حدّ بعيد مع ملف تبييض الاموال.
فالمنطق يلزم الوفد القضائي بالسؤال عن تحويلات جرت منذ حصول الانهيار المالي، وعن الاستنسابية التي ادّت إلى حصول تحويلات دون اخرى.
ولمزيد من الدقة، فإنّ هذه التحويلات تنقسم الى نوعين اثنين:
الاول، ما تقوم بها المصارف لصالح زبائنها، وهي تتولّى تسديده في الخارج من خلال حسابات المصارف، وهذا النوع غير قابل للكشف عنه بسبب القوانين اللبنانية والتي تحميه.
اما الثاني، فيتعلق بالتحويلات التي اجرتها المصارف لزبائن بطلب من مصرف لبنان، والذي يتولّى هو تغطيتها من حساباته.
وهذه الطلبات انتقائية وقابلة للكشف والمساءلة، طبعاً من خلال التعاون مع القضاء اللبناني، وفي حال الدخول لاحقاً إلى هذا الملف فإنّ المنطق يقول بأنّه سيطال اطرافاً اساسية في الطبقة السياسية، اضافة إلى شخصيات اقتصادية وتجارية وحتى اعلامية، وهذا ما سيفتح الباب واسعاً لإجراء مقايضات سياسية تطال استحقاقات أساسية وترتيب المرحلة المقبلة.
ولا يجب إغفال انّ هذا التحرك القضائي الاوروبي انما يحصل بالتوازي مع مؤشرين اثنين الاول: بعد الكلام القاسي الذي أدلى به الرئيس الفرنسي بحق الطبقة السياسية اللبنانية «التي يجب ان تزول»، إثر عودته من مؤتمر الاردن منذ اكثر من اسبوعين. وهذا الموقف القوي لماكرون جاء بدوره بعد القمة الاميركية - الفرنسية التي كانت قد عُقدت في واشنطن مطلع الشهر الماضي والتي جرى خلالها التطرق إلى الملف اللبناني ولو على الهامش.
والثاني، بأنّه يأتي بعد التسريبات الاعلامية حول عزم فرنسا الضغط بقوة على الوسط السياسي اللبناني مع مطلع العام الجديد، ولو ادّى ذلك الذهاب الى عقوبات بالاشتراك مع الاميركيين، للدفع بالوضع اللبناني الى إنجاز التسويات المطلوبة.
وتبدو فرنسا مصممة في هذا الاتجاه، وهي التي باتت لديها استثمارات في لبنان، اضافة الى مصالح أمنية تطال اوروبا كلها، بدءاً من انفتاح الشاطئ اللبناني امام حركة الهجرة غير الشرعية.
تبقى هنالك ملاحظة اضافية مهمّة، وهو انّ الوفد القضائي والذي تشكّل من ثلاثة بلدان اوروبية أساسية، جرى انتقاؤه بدقّة، حيث ضمّ مدّعين عامين وقضاة من رتب مهمّة، وليس قضاة عاديين، وهذا له معناه بكل تأكيد.
الأكيد انّ اوروبا تبحث عن إعادة الاستقرار الى لبنان لأنّ مصالحها الامنية تفرض عليها ذلك، في وقت ينبئ فيه المستقبل بالأهوال في حال تُركت الامور على غاربها.
من هنا الاتصالات الدائرة في الأروقة الديبلوماسية حول لبنان، والتي تطال بشكل خاص باريس والرياض والدوحة وواشنطن.
ولذلك جرى الترويج لفكرة الاجتماع الرباعي في باريس، رغم انّ أي معطى فعلي لهكذا اجتماع لم يظهر فعلاً، لأنّ الصورة لا تزال بحاجة للكثير من المعطيات قبل انضاجها، وأهم هذه المعطيات ما يتعلق منها بالتطورات الحافلة في الشرق الاوسط، والتي تتركز هذه الفترة على ساحتين: العراقية والسورية. وللساحتين تأثيرهما المباشر على لبنان. ولأجل ذلك خففت قطر من اندفاعتها للمساعدة في تدوير زوايا الأزمة اللبنانية انسجاماً مع النصيحة الاميركية، ذلك انّ ظروف المنطقة لم تنضج بعد. وتخفيف قطر لسرعة تحركها باتجاه لبنان لا يعني ابداً تجميدها او وقفها، وهي التي تحظى بعلاقات ممتازة مع «حزب الله». فالمبدأ لا يزال قائماً، لكن ثمة حاجة ملحّة لضبط التسوية التي يحتاجها لبنان مع الساعة الاقليمية، لضمان نجاحها. ولكن الظروف لا تحتمل المراوحة لوقت طويل، فثمة فرصة يجري تكوينها، وهنالك خشية من ضياعها، وبالتالي إدخال لبنان في دهليز مظلم.
فالهدنة القائمة في العراق منذ تشكيل الحكومة الجديدة، قد لا تطول كثيراً، ويعتقد بعض المراقبين بأنّها قد لا تصمد لأكثر من اشهر معدودة، وفي احسن الاحوال الصيف المقبل، إلّا اذا حصلت تسوية جديدة ثابتة تضمنها واشنطن وطهران وتوافق عليها الرياض. ولكن هذا لا يزال غير مؤمّن لغاية هذه اللحظة.
وفي سوريا ثمة تشكيك بإمكانية ترسيخ الايجابيات التي ظهرت حتى الآن. صحيح انّ حركة وزير خارجية الامارات باتجاه دمشق لا بدّ ان تكون قد حظيت بموافقة السعودية، لكن الرئيس السوري بشار الاسد غير مستعد لتخفيف مستوى علاقته العسكرية بإيران، رغم الوضع الاقتصادي والمعيشي الكارثي في بلاده. ونُقل عنه قوله، انّه عندما وضعت دول الخليج السكين حول رقبته، لم يجد سوى ايران تعمل على إنقاذه من الذبح. فكيف له ألّا يستخلص العِبر؟
في الوقت نفسه، فإنّ روسيا القلقة من خسارة موقعها في سوريا بسبب تفاقم الأزمات الحياتية والاقتصادية، مما قد يتسبب بهز الاستقرار الداخلي اكثر، فإنّها سعت لتأمين حماية للساحة السورية الشمالية من خلال المصالحة بين تركيا وسوريا.
وهذه الخطوة والتي تحصل بعيداً من ايران، تؤدي بعض النجاح، لكن السؤال الاول هو حول ردّ فعل ايران في حال إبقائها خارجاً. والسؤال الثاني هو حول وضع الأكراد الذي يريد اردوغان إنهاء خطرهم العسكري.
السؤال الثالث، هو حول جدّية وثبات ما يقوم به إردوغان، ام انّه مرتبط بانتخاباته الصعبة في ايار المقبل، حيث انّ انفتاحه على دمشق سيسمح له باسترضاء العلويين الاتراك، والذين يبلغ عددهم زهاء 17 مليون شخص. وبالتالي، هل سيبقى اردوغان على اندفاعته بعد انتهاء انتخاباته، ام يعود للمطالبة بغرض سيطرته على الشريط الحدودي، وهو ما يشكّل إحدى ركائز سياسته باتجاه سوريا؟
واستنتاجاً مما تقدّم، فإنّ الاشهر الفاصلة عن الصيف المقبل، تسمح بإنتاج فرصة للبنان «للنفاذ بجلده» وإنجاز تسوية على غرار الترسيم البحري، تسمح له بتأمين استقرار هو بأمسّ الحاجة اليه، قبل ان تعود المنطقة وتلتهب من جديد.
وهي الثغرة التي يعمل الاوروبيون على استغلالها، لضمان استقرارالشاطئ اللبناني او المجال الحيوي الاوروبي، وهو ما قد يدفعهم لاستخدام الشدة مع طبقة سياسية لا تعرف ولا تعترف سوى بمصالحها الخاصة فقط لا غير.