نشر "موقع 180" التقرير المالي التالي للكاتبه إيڤون أنور صعيبي وجاء فيه : حرب الودائع المكيافيلية لا تعدو كونها بدعاً شيطانيّة. إذا امتنع مصرف عن إعادة الودائع لأصحابها فذلك يعني إساءة أمانة. ويحقّ للمودعين تالياً اللجوء إلى القضاء لتواجد عناصر "السرقة" و"الاحتيال" وهما جرمان جزائيان. وإذا لم يتجاوب المصرف بعد ذلك، عندها يكون متعثراً ويتوجب إشهار إفلاسه.
في البدء، استقطبت المصارف الودائع. سيطرت على الدولارات خصوصاً بعد أزمة 2008 المالية. ثمّ جرى التسويق أن تضخّم الودائع دليل عافية.
بعد انكشافها الائتماني، حجزت المصارف الودائع لديها بشكل غير شرعي. منعت سحبها من قِبل أصحابها إلّا من خلال تعاميم مصرف لبنان القائمة على تعددية أسعار الصرف، وكلها وهميّة، وكلها غير قانونيّة، فنُقلت الثروة من يد إلى أخرى فيما استمرّ خلق النقد وضخّ السيولة بالليرة بتغذية ارتفاع قيمة الدولار.
بالمقابل، فشلت المصارف، وتحديداً الكبرى منها، في إعادة تكوين رأسمالها والمؤونات المطلوبة. حتى انها رسبت في زيادة رأس المال كما طلبت حاكمية مصرف لبنان المركزي، إلا أنها لم تُخرج أيّاً برغم ما تسبب به بعض المصارف من إحراجات للحاكم رياض سلامة.
عملياً، لم تمتثل المصارف لقرارات وتعاميم السلطة النقدية الوصيّة عليها التي كانت تمدّ لها بلا انقطاع خططاً ترقيعيّة للخروج من المآزق المتتالية. انتقت المصارف ما طاب لها من إجراءات. جاهرت بالتمرّد على القوانين ومخالفة المعايير المصرفيّة الدولية وضربها عرض الحائط.
بهذا المعنى، صارت المصارف اللبنانية، شيطانية الذكاء وتملك أعلى الشهادات بالتوسّع المفرط في الاستثمارات غير الآمنة، وصانعة لأعظم السرقات في التاريخ.
برغم ذلك، يجهد “مصرفيّون” للظهور بشكل “قدّيسي الأزمة” وكبش محرقتها. يحاولون، عبر حملاتهم المدفوعة، تسويق أن الدعاوى القضائيّة ضدّ المصارف في الخارج تستنزف الأموال المتبقية في القطاع المصرفي. يتناسون كيف هرّب المودعون الدّسمون أموالهم. يصرّون على أنّ الأحكام التي تصدر وتلزم المصارف بتحويل الأموال إلى حسابات المدينين في الخارج تمتصّ السيولة، وتحرم صغار المودعين اللبنانيين من الحصول على حقوقهم. يدّعون أنّ المصارف سدّدت نصيبها وقد حان دور المودعين (الذين استفادوا من نسب الفوائد الهستيرية) عبر تذويب الودائع وإن لم يكن شطبها، والدولة عبر الخصخصة والسطو على الأملاك العامة. يتغافلون كيف حقّقوا هم، على مدى 30 عاماً أرباحاً صافية تخطّت 30 مليار دولار تقاسمها المساهمون. ويتناسون كيف سجّلوا أرباح هندسات رياض سلامة الماليّة، وكيف بنوا أبراجهم وفروعهم المصرفية ليس من أموال المساهمين الخاصة، بل من مدّخرات الناس. ويظنون أنهم سيفلتون من المحاسبة عبر اتهام مصرف لبنان وحاكمه بحجز الودائع لديه. والحقيقة أن مصرف لبنان لطالما امتنع عن الإفصاح عن إيداعات القطاع المصرفي لديه الموزعة بحسب العملات، إلّا أنه أكّد مراراً أنه سدّد للمصارف إيداعاتها.
يدور النقاش الجدّيّ حول فرضيّة أن تطير الودائع في حال تمّ الإعلان عن إفلاس المصارف المتهالكة.
كانت المصارف في لبنان، تحقّق الأرباح السّهلة والسّريعة من خلال إقراض الدّولة ومصرف لبنان، في حين كانت هوامش تحقيق الأرباح من الاستثمارات السّليمة ومن الزبائن هشّة.
أما طرق مسك الدفاتر، فلم تكن نظيفة ولا شفّافة. لم يتسنَّ لغالبيّة المودعين، إلا المحظيّين منهم، معرفة حقيقة توظيفات مدّخراتهم لتدارك المخاطر في الوقت المناسب.
سوء الإدارة كان جليّاً. والأمر سيّان في ما خصّ واجبات إدارات مصارف كانت مؤتمنة على ودائع وُكّلت إليها مسؤولية إدارتها، فأخفقت برغم علمها بالنتائج.
هذه الإدارات، وبدلاً من أن تحتاط لكلّ طارئ، وظّفت الودائع بنسب مخاطر مُقلقة.
لا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ. بل خُصِصَت ملايين الدولارات للدعاية والإعلان والتسويق أنّ القطاع المصرفي صلبٌ كالفولاذ، فشُوّشت عقول أصحاب الحقوق، أو بالأحرى خُدِعوا.
لكلّ هذه الجرائم عواقب حتى وإن تأخرّ القضاء اللبناني في وضع يده على ملفّ المصارف بفعل الضغوط السياسية، وتلك قضيّة أخرى. العواقب في حال أشهر المصرف إفلاسه تبدأ ببيع الموجودات العقارية المدرجة ضمن ميزانيّة المصارف؛ إقفال فروعها في الأسواق الخارجية وتسييل موجوداتها؛ تسييل العقارات التي تملكها كبدل استيفاء لديون غير محصّلة.. ولا تنتهي عند الحجز والتنفيذ على أموال المساهمين المنقولة وغير المنقولة في لبنان والخارج لإيفاء المودعين حقوقهم.
صحيح أن لكلّ مصرف قصّة. إلا أنّ الحبكة الوحيدة المتشابهة هي الممارسات المنافية للأصول، والإثراء غير المشروع والاختلاسات، وتبييض الأموال، وتضارب المصالح، وسوء الأمانة، ومخالفة القوانين، والاستهتار بالقواعد السليمة في الإدارة المصرفيّة، واستعمال ودائع الناس في مغامرات وعمليات تعود بالأرباح الكبيرة على مساهمي المصارف والقيّمين على إدارتها.. ودائماً بغطاء من مصرف لبنان.
ولقد درجت العادة تاريخياً خلال الأزمات التي أسقطت بعض المصارف، أن تمكن المساهمون والإداريون الكبار من الإفلات من المحاسبة عن أعمالهم الاحتيالية التي حققت لهم مكاسب غير مشروعة. هؤلاء تمتّعوا بالأموال الحرام المختلسة من الناس وأصحاب الحقوق وحمّلوا الدولة ومصرف لبنان (الذي سدّد الودائع) ومن خلالهما الشعب فواتير الخسائر تضخّماً وتباطؤ نموّ.
المفارقة هذه المرّة، امتداد الأزمة التي ضربت المصارف الكبرى، صاحبة الحصّة الأكبر في السوق المصرفيّة، إلى تلك السليمة ومعها المصرف المركزي.
لم تتوقف المسألة عند هذه الحدود. خلال السنوات الأربع الماضية، تغيّرت بنية الودائع وتآكلت. تدهور عدد الزبائن الذين يملكون أقلّ من 3000 دولار أميركي من 1.715.283 في مطلع العام 2020 إلى 648.000 مودع في صيف العام 2022، نصفهم ممن يُوطنون رواتبهم من موظفي القطاع العام في لبنان.
وفيما تراجع عدد الزبائن من أصحاب الودائع بين 3.500 دولار و50.000 دولار من 670.439 في شباط/فبراير 2020 إلى 474.000 حساب في نهاية حزيران/يونيو 2022، انخفض عدد المودعين بين 50.000 و100.000 دولار من 143.435 حساباً في مطلع 2020 إلى 115.000 حساب في صيف العام 2022.
-أما الودائع بين 100.000 و500.000 فتراجعت من 195.000 حساب في 2020 إلى 139.000 في 2022.
–الودائع بين 500.000 ومليون دولار كان عدد حساباتها في مطلع العام 2020 28.794 وأصبح 17.595 في حزيران/يونيو 2022.
-الودائع بين مليون دولار و5 ملايين دولار تدنّت من 19.000 حساب في 2020 إلى 10.344 في 2022.
–الودائع بين 5 ملايين و10 ملايين دولار تراجعت من1.633 حساباً في 2020 إلى 862 حساباً في 2022.
–الودائع بين 10 ملايين و50 مليون دولار أميركي هبطت من 898 في 2020 إلى 460 حساباً في 2022.
-أما الحسابات بين 50 و100 مليون دولار فتراجعت من 42 حساباً في مطلع 2020 إلى 19 حساباً في صيف 2022، والأمر بالمثل للودائع الأكثر من 100 مليون دولار والتي انخفض عدد زبائنها من 23 حساباً في 2020 إلى 14 حساباً في 2022.
-باختصار، في شباط/فبراير 2020، كان عدد زبائن “السيستام” المصرفي 2.774.014 الا انه أصبح في حزيران/يونيو 2022 1.404.964 أي انه تمّ التخلّص من 1.369.050 حساباً، هي في غالبيتها للودائع الصغيرة لغاية الـ50 الف دولار، في وقت طارت فيه الودائع “الحرزانة” الى الخارج.
تشير الأرقام إلى تراجع الودائع من حوالى 126 مليار دولار الى ما يناهز الـ95 ملياراً، (31 مليار دولار هو الفارق)، وقد حاز القطاع العقاري على حصّة الأسد منها، فيما هُرّب جزء منها الى الخارج، وخُصّص الباقي لتسديد القروض وتذويب الودائع عبر الشيكات المصرفية التي استخدمت لتسديد القروض؛ او من خلال بدعة اللولرة التي امتصّت أكثر من 70٪ من قيمة الودائع.
والجدير ذكره أنه بحلول نهاية شهر تموز/يوليو 2022، بقيت محفظة قروض القطاع العقاري بالدولار في البنوك قائمة بقيمة 12.6 مليار دولار أمريكي، مقابل 40 ملياراً قبل بدء الأزمة في تشرين الأول/أكتوبر 2019. هذا وسُجّلت معاملات بيع عقارات في العام 2021 بـ15.5 مليار دولار. امّا النّصف الأول من العام 2022 فسجّل معاملات بـ 5.8 مليار دولار. بذلك يكون القطاع العقاري قد استحوذ على 21 مليار دولار معظمها أتت من تسييل الودائع.
أما الأموال المهرّبة الى الخارج فمن الصعب إحصاؤها بما أنّ المصارف تبقي ميزانيّاتها خارج التدقيق والمحاسبة. هكذا تدير المصارف بطرق مخالفة للقوانين والشفافية والمعايير الأخلاقية والمهنية الأموال. أما الأزمة برمّتها فهي أزمة نظام سياسي إقتصادي مالي مصرفيّ.