كتبت "الاخبار" التالي : رغم أن حركة بكركي في ما يتعلق بالملف الرئاسي بلا بركة، وجاءت متأخرة، إلا أن الصرح يواصل محاولة تقديم أولوية إجراء الانتخابات كمبدأ، من دون تزكية مرشحين، وإن كان يرى في أسماء محددة أهليّة للرئاسة. إذ تشدّد بكركي على أنها لن تمارس ضغوطاً على القوى المسيحية للاتفاق على مرشح توافقي كاسم، أو لتقديم تنازلات متبادلة للوصول إلى اسم مرشح واحد. وإذا كان مشهد النواب المجتمعين في بكركي سيذكّر حكماً بما جرى في أواخر الثمانينيات، تبقى الخشية من الوصول إلى النتيجة نفسها. علماً أنه، في حينه، كان موزاييك النواب المسيحيين منوعاً، بعكس الاصطفاف الحزبي الضيق الحالي الذي يفرض على النواب الالتزام بخيارات قياداتهم. كما أن النواب، يومها، انطلقوا من مروحة واسعة من أسماء مرشحين من داخل صفوفهم، على عكس اللائحة المصغرة المتداولة حالياً. إضافة إلى أن اللقاء الذي يفترض أن يجمع نواب الكتل المسيحية الحزبية (قبل أن يتبلور موقف النواب المستقلين من الاصطفاف الطائفي) كان يمكن أن يختزل، خارج بكركي، بلقاء قيادات هذه الكتل، كالتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية في شكل أساسي كأكبر كتلتين، في إطار حواري حول الرئاسة.
ما جرى حتى الآن في بكركي لم يخرج بعد عن الصور التذكارية. في حين أن النقاش الفعلي يدور في مكان آخر، ويحصر المشهد الرئاسي في شخصين: رئيس تيار المردة سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزيف عون. والخشية المسيحية المعارضة هي أن تؤدي هذه المواجهة، إذا لم تجر الانتخابات سريعاً، إلى تطيير الانتخابات الرئاسية إلى أمد بعيد... وقد يكون ذلك هو المقصود.
كان الاعتقاد السائد لدى فريق 8 آذار، وحتى لدى بعض أوساط المعارضة، بأن هذه القوى ضمنت 65 صوتاً لفرنجية. على هذا الأساس كانت زيارة فرنجية «الرئاسية» إلى بكركي. وفيما كان الانشغال بإعادة ترتيب الحسابات الدقيقة والتأكّد نهائياً من صحة التزام النواب المعنيين بالتصويت، تبين أن ثمة أصواتاً نيابية بدأت تتفلت على الطريق، فتفرملت الاندفاعة التي أوحت في ساعات قليلة بأن انتخاب فرنجية أصبح في الجيب.
في هذه الساعات القليلة، أُعيد درس الملف الرئاسي من كل جوانبه، وبدا لكل فريق أن أمراً ما يطبخ في شكل يوحي بأن أحداثاً دراماتيكية ستحصل وتفرض إيقاعاً رئاسياً يضع المعارضة والتيار الوطني في زاوية ضيقة. إذ إن الطرفين مختلفان على كل شيء إلا على معارضة وصول فرنجية. لذا أصبح التداول بخيارات بديلة أكثر إلحاحاً في مرحلة الخوف من التزام أصوات نيابية، ولا سيما سنية، بالتصويت لفرنجية، وانطلقت حركة مضادة لإعادة طرح مشهد رئاسي جديد على الطاولة. من هنا صار اسم قائد الجيش أكثر تقدماً باعتبار أنه يمكن أن يحظى، وهنا الكلام تحديداً عن الدعم المحلي، بأصوات نيابية، أكثر مما يمكن أن يحصل عليه أي مرشح آخر من اللائحة المتداولة.
لا يتميز قائد الجيش سوى بالمنصب الذي يتبوأه. لكن القاعدة التي بدأت تتكرس بالاتفاق على قائد الجيش حين يتعذر الاتفاق على مرشح آخر، تحمل في طياتها الإطاحة بكل مفاهيم العمل السياسي والحزبي والتمثيل الحقيقي. وقد تكون هذه المواصفات تحديداً هي التي تجعل من عون مرشحاً مقبولاً، وتجعل نواباً يتسابقون إلى الإشادة به والانضمام إلى حلقته. وإذا كانت زيارة السفير السعودي وليد البخاري إلى اليرزة استثماراً علنياً في توقيت رئاسي، من دون أن تصل إلى تبنّ رسمي من الرياض لقائد الجيش، إلا أن مفعولها محلياً لدى نواب يدورون في فلك الرياض قد يكون مجدياً بالنسبة إلى فريق عون. علماً أن ثمة ميلاً فطرياً لدى سياسيين بالاصطفاف الفوري إلى جانب أي مرشح رئاسي تتقدم حظوظه، فكيف إذا كان قائداً للجيش.
لكن بقدر ما يتقدم اسم عون، يتمسك الفريق الداعم لفرنجية بمرشحه، ما يخلق معادلة توازن لا تفضي حتى الآن إلا إلى مشهد لا انتخابات رئاسية فيه قريباً. فتصبح المعادلة متأرجحة بين حرق الاسمين، أو فرض أحدهما بقوة تدخل خارجي. وثمة رهان لدى فريق 8 آذار على دور السعودية في تمرير اسم فرنجية قياساً إلى الحوار السابق بينه وبين الرئيس سعد الحريري قبل انتخاب الرئيس ميشال عون، بغضّ نظر سعودي، ما فُهم يومها على أنه مباركة لاسم فرنجية. لكن واقع الحال بما يتعدى زيارة البخاري إلى اليرزة، أن السعودية ليست في وارد التدخل رئاسياً، ولا في وارد دعم فرنجية. وهذا أمر يعرفه الساسة اللبنانيون من لقاءات باريس، وليس فقط من حلفاء الرياض في بيروت، ما يعني أن إعادة حسبة الأصوات ستأخذ في الاعتبار كل المؤشرات المحلية. وحتى الآن، ما من غلبة لأي من المرشحين، على رغم أن فريق 8 آذار قادر على جمع أصوات لفرنجية تؤهله ليكون مرشحاً أول، وليس رئيساً مضموناً. في حين أن عون لم يحظ بعد بهذا العدد من الأصوات، فاسم قائد الجيش، كما العبرة الدائمة، سينزل من فوق، وفق معادلة إقليمية دولية. وحينها سيصبح التعديل الدستوري المطلوب في خبر كان، أو يحط في درج رئيس المجلس النيابي الذي يرفضه اليوم فيما قفز عنه حين انتخب الرئيس ميشال سليمان رئيساً.
مع كل ذلك، تبقى المعادلة الأكثر واقعية اليوم هي أن لا انتخابات رئاسية، ما يجعل الباب مفتوحاً لمتغيرات في لوائح المرشحين الذين ستتجدد أحلامهم بكرسي الرئاسة الضائعة.