كتبت "الجمهورية" التالي : الواقع الداخلي هستيري يتقلّب على نصل سكين حاد، يعمل حزّاً متواصلاً في كل أجزائه ومفاصله؛ كرة النار السياسية والمالية والمعيشيّة باتت بلا فرامل كابحة لتدحرجها، ومعطلو الحياة في لبنان قدّموا اوراق اعتمادهم للشيطان، والتزموا ورشة دكّ أسس البلد، وتعليق اللبنانيين على خشبة الإهلاك، والسير بهم بخطى متسارعة على طريق كارثة لا خلاص منها.
هي حرب تيئيس وتجويع وإفقار مجرمة تُشنّ على لبنان، ميليشيات متفلتة بمسمّيات جديدة، أسوأ وأخطر من ميليشيات الحرب الاهلية، أثبتت براعة لا مثيل لها في تسميم البلد بالحقد والنكد ومعارك الاستئثار وتصفية الحسابات، ألقت البلد في رمال متحركة تبتلع المواطن اللبناني، الذي صار فيها معلّقاً بشعرة رفيعة بين الحياة والموت، ومحبوساً في ما تبدو انّها مرحلة انتقاليّة من واقع أسود، إلى واقع اكثر سواداً وظلماً، مجهولة معالمه وويلاته وأي مصير سيلقاه.
لا يجرؤون!
حياة الناس في خطر غير مسبوق، الدولار هو السيّد، والليرة في الارض، والأسعار تتصاعد الى ارتفاعات شاهقة، والساحة أُخليت لعصابات المال ، ومحميات اللصوص التي تبدأ بالصيارفة ولا تنتهي بلصوص ومافيات المصارف، لطوابير خامسة وسادسة تعيث توتيراً وبثاً للشائعات المرعبة وترويج السيناريوهات القاتلة، تُدار من غرف سوداء، لتحكم وتتحكّم بهذا المسار الجهنّمي، وليس من يردعُها، او يجرؤ على فضحها ومحاسبتها. كل ذلك لم يوقظ التناقضات النائمة، والعقول المخدّرة بسياسات خرقاء وأنانيات تمنعها من إيقاظ الحسّ بالمسؤولية والاستجابة لاستغاثات اللبنانيين، بسلوك مسار الفرج الذي يتفق الداخل والخارج على انّ مدخله الأساس انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة قادرة بصلاحيات انقاذية واصلاحية شاملة.
أسرى مواقفهم
حتى الآن، وفي ظلّ هذا الواقع، ليس في الأفق ما يؤشر إلى تغيير في مسار التعطيل والتجويع. وعلى ما يقول معنيون به لـ»الجمهورية»، فإنّ «مجريات الملف الرئاسي، ثابتة في مربعات الانقسام الداخلي، ولا تشي بأي خرق محتمل من شأنه ان يغيّر هذا المسار ويقرّب لحظة الإنفراج. فمكونات الداخل على اختلافها باتت أسيرة مواقفها، والمواطن والبلد يدفعان الثمن، ولم يعد خافياً انّ الشارع في ذروة غليانه واحتقانه، ولن يطول الامر حتى ينفجر إلى حدود قد لا تبقي شيئاً، وتخلق واقعاً لبنانياً جديداً يستحيل على أحد ان يجاريه او يحتويه».
وبحسب هؤلاء، فإنّ «مخرج الطوارئ من هذه الأزمة، محدّد بالتوافق على رئيس للجمهورية ولا سبيل غيره. وفشلت كل الجهود والمبادرات والمساعي الداخلية في دفع المكونات السياسية اليه. وإلى هذا الفشل انتهت ايضاً الجهود الخارجية وتمنيات الاصدقاء على القوى السياسية بالتوافق على انتخاب رئيسهم. حتى أنّ لغة الترهيب والترغيب التي وردت في الرسالة التي وجّهها الاجتماع الخماسي في باريس، ونقلها سفراء الدول إلى المسؤولين في لبنان، لا يبدو انّها ستجد مكاناً في الداخل تُصرف فيه، وتبعاً لذلك، علينا ان نتوقع الأسوأ على كل المستويات».
ضياع لبنان
وإذا كانت تطورات الساعات الاخيرة، وما تخلّلتها من تحركات غاضبة في اكثر من مكان، قد أحدثت «نقزة كبرى» في الداخل، بدت وكأنّها تنذر بما سيكون عليه الشارع من غليان وفلتان، إن عاجلاً أو آجلاً، فإنّه كان باعثاً لمخاوف كبيرة لم تنحصر حدودها في الداخل. وبحسب معلومات موثوقة لـ»الجمهورية»، فإنّ اشارات خارجية، وتحديداً اوروبية، بهذا المعنى، وردت إلى مستويات رفيعة عبر قنوات ديبلوماسية، حذّرت من انفلات الوضع في لبنان، وإغراق الشعب اللبناني بويلات مأساوية. مؤكّدة «أنّ على القادة في لبنان المسارعة، ومن دون أي إبطاء إلى اتخاذ ما يتوجب عليهم من خطوات انقاذية قبل فوات الأوان، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية وضمن فترة قصيرة جداً، والّا فإنّ مسار التعطيل القائم وصراع الحسابات السياسيّة والحزبيّة سيؤديان حتماً إلى ضياع لبنان».
باريس قلقة جداً
والبارز في هذا السياق، ما كشفته مصادر ديبلوماسية لـ»الجمهورية»، عمّا وصفته بـ»قلق فرنسي بالغ جداً من تطورات الوضع في لبنان، وخشية كبيرة من حدوث انهيار دراماتيكي عميق جداً. وضمن هذا السياق يندرج تحرّك السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو، في نقل رسالة مستعجلة إلى المسؤولين في لبنان بضرورة احتواء الوضع القائم والتعجيل بانتخاب رئيس للجمهورية».
وكانت لافتة امس، زيارة السفيرة غريو إلى عين التينة ولقاؤها رئيس مجلس النواب نبيه بري للمرة الثانية في غضون ايام قليلة، تلت زيارة سفراء «الاجتماع الخماسي». كما زارت رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. وأفيد بأنّها وضعتهما في أجواء الاجتماع الخماسي في باريس.
وفي المعلومات، انّ ما سمعته السفيرة في عين التينة، لم يخرج عن سياق الموقف الثابت للرئيس بري، المنفتح على أي جهد او مسعى أو حوار بإرادة صادقة ونيّة صافية للتوافق على رئيس الجمهورية، باعتبار انّ هذا الانتخاب يفتح الباب امام لبنان لسلوك معبر الانفراج، والبدء بالمعالجات للأزمة التي باتت فائقة الضرورة والإلحاح، وسط ما نشهده من انهيارات يومية على المستويين المالي والإقتصادي، وتعميق للبؤس والجوع لدى اللبنانيين».
وقالت مصادر موثوقة لـ»الجمهورية»، انّ «الإدارة الفرنسية تشجع أي مسعى للتوافق، بصرف النظر عن اسم اي شخصية يرسو عليها التوافق لرئاسة الجمهورية». ولفتت إلى «انّ كرة التوافق ليست لدى الرئيس بري، الذي اعرب في محطات كثيرة عن استعداد كلّي للتفاهم والتوافق على رئيس للجمهورية، وكان اول من دعا إلى هذا التوافق قبل الشغور في سدّة الرئاسة الاولى، في خطاب 31 آب 2022، في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر، انما الكرة في ملعب من يعتبرون أنفسهم اصدقاء وحلفاء دول «الاجتماع الخماسي». وقد سمع سفراء الدول الخمس في بيروت قبل ايام كلاماً مسؤولًا مباشراً وصريحاً بهذا المعنى، مفاده: «نحن على أتمّ الاستعداد لللجلوس فوراً على الطاولة والتوافق على رئيس، وبالتالي العقدة ليست عندنا على الاطلاق، بل هي عند اصدقائكم وحلفائكم الذين يرفضون الحوار والتوافق، ويختلفون مع بعضهم البعض، فاذهبوا واقنعوهم ونحن مستعدون».
خيار ثالث
الاّ انّ مصادر واسعة الاطلاع أبلغت الى «الجمهورية» قولها، انّ الوقائع الداخلية المرتبطة بالملف الرئاسي، والحراك الذي يواكبها من الخارج، تعكس بما لا يرقى اليه الشك بأنّ تعطيل انتخاب رئيس في لبنان ليس فقط مسؤولية الداخل، بل هو ايضاً مسؤولية الخارج.
وقالت: «خلافاً لكل ما يُقال، فإنّ اجتماع باريس تجاهل سبب التعطيل الخارجي للملف الرئاسي، وحصره بالجانب اللبناني فقط، وأسباب التعطيل بوجهيها الداخلي والخارجي ما زالت قائمة، ومن الطبيعي في هذه الحالة الّا يصل الاجتماع إلى اي نتيجة ايجابية. وبالتالي أي حديث عن عقوبات او «تعاطٍ مختلف مع المعطّلين» على تعبير السفيرة الاميركية دوروثي شيا، لا يعدو اكثر من إخراج الخارج من تهمة التعطيل، وتعمّد القاء المسؤولية الكاملة عن هذا التعطيل على اللبنانيين وحدهم».
ولفتت المصادر عينها، إلى انّ المداولات التي سادت في الاجتماع لم تعكس التقاء المجتمعين على موقف واحد، حيث انّ المداولات لم تتناول ما سُمّيت بالمعايير او المواصفات التي ينبغي ان تتوفر بالرئيس الجديد للبنان، بل انّ محاولات جدّية حصلت في داخله للدخول في نقاش حول الاسماء، وإقناع سائر المجتمعين بتسمية الاجتماع لخيار ثالث لرئاسة الجمهورية، متجاوزاً بذلك الخيارين المطروحين في لبنان، أي الوزير سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون. وقد قوبل هذا الطرح برفض تبنّي الاجتماع الخماسي هذا الخيار، على اعتبار انّه سيؤدي إلى إرباكات كبيرة في لبنان وربما الى توترات، وعبّر الجانب المصري بوضوح عن هذا التخوّف».
مربّع الحلّ
وعن مكمن التعطيل الخارجي، اكتفت المصادر عينها بالقول: «الحل المنتظر للأزمة الرئاسية في لبنان عالق في المربّع الاميركي - الفرنسي - السعودي - الايراني، ولننتظر ما سيشهده هذا المربّع من تطورات في الآتي من الأيام، إن بين فرنسا وايران اللذين تمرّ العلاقة بينها في ذروة توترها، جراء ما تعتبره فرنسا شراكة ايران في الحرب الروسية على اوكرانيا، وما خلّفته من تداعيات خطيرة على دول اوروبا، او على المثلث الاميركي - السعودي - الايراني، ولبنان موجود في مكان ما في هذا المثلث».
واشارت إلى «انّ ثمة حديثاً في اوساط ديبلوماسية عن لقاءات او مفاوضات محتملة في الفترة المقبلة على خط هذا المثلث، فإن صحّ هذا الاحتمال، فقد ينتج منه، اما تباين واستمرار في الدوران في حلقة التصعيد، واما تسوية وتبريد وليونة متبادلة في نقاط الخلاف والاشتباك بين تلك الدول. والملف اللبناني سيتحرّك حتماً على إيقاع الاحتمالين، أكان على وقع التصعيد، وهذا معناه مزيداً من التأزّم، أو على وقع التبريد وهذا معناه تسهيل التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية».
السعودية وايران ولبنان
الّا انّ خبراء في العلاقات بين ايران والسعودية، يؤكّدون لـ»الجمهورية»: «انّ العلاقة السعودية - الايرانية لم تخرج بعد من كونها في غاية التوتر، فبينها حقل واسع من نقاط الخلاف، من لبنان الى سوريا وصولاً الى اليمن. في الشق اللبناني ايران تقول عبر مستوياتها كافة، انّها لا تتدخّل في ملف الرئاسة في لبنان، باعتباره شأناً داخلياً يعني اللبنانيين وحدهم، وهذا الكلام يماشيه فريق لبناني، ولا يُقنع فريقاً آخر.
وفي المقابل لا يمكن الرهان على ليونة في الموقف السعودي، قبل ان تلمس الرياض ليونة محسوسة من ايران وحزب الله، وخصوصاً في الملف اليمني، وثمة محاولات جدّية تجري في هذه الفترة، لخلق وقائع اكثر برودة وليونة على الجبهة اليمنية».
فرنجية
على صعيد رئاسي متصل، برزت امس مواقف لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، اطلقها خلال العشاء التقليدي لمناسبة «خميس المرفع» في قصر الرئيس الراحل سليمان فرنجية، حيث قال: «لا يجوز أن تُستعمل الأزمة الاقتصادية كوسيلة للضغط السياسي من قِبل البعض الذي يستغلّ وجع الناس للحصول على مكاسب سياسية».
ودعا الجميع «الى تحمّل مسؤولياتهم الوطنية باقتراح حلول واتخاذ قرارات تنقذ البلد». ورأى انّ «الدستور قد وُضع بطريقة حكيمة. فالميثاقية هي أن تكون كل طائفة ممثلة»، مضيفًا أنّ «الرئيس المنتخب بـ 65 صوتاً وبحضور 86 نائباً هو رئيس شرعي وميثاقي».
واعتبر فرنجيّة انّ «حماية المسيحيين تبدأ بتعزيز انتمائهم الى الوطن وليس بإدخالهم في مشاريع تقسيمية عبر تخويفهم من شركائهم في الوطن». أضاف: «إنّنا موجودون في السياسة ولدينا كامل الشرعية والكفاءة لخوض كافة الاستحقاقات». وأردف: «بعكس ما يسوّق البعض، إنّ وجودنا كإسم مطروح للرئاسة لا يعرقل الاستحقاق الرئاسي، وأيّ تسوية تحصل لمصلحة لبنان نحن معها، ولكن كل تسوية تحتاج الى طرفين يتحاوران من أجل ايجاد قواسم مشتركة».
ميقاتي: فقسة زر
إلى ذلك، وغداة التطورات والحراكات التي شهدها الشارع قبل يومين، انعقد مجلسَ الامن المركزي في اجتماع طارئ في السرايا الحكومية برئاسة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، الذي قال في مستهله: «لفت نظري قول البعض إنّ اجتماعنا اليوم جاء متأخّراً، فيما الحقيقة أنّ مدماكين أساسيين لا يزالان يشكّلان سداً منيعاً للدولة وهما رئاسة الحكومة والمؤسسات التي تمثلونها اليوم (الاجهزة الامنية والعسكرية)، نحن نبذل كل جهدنا للحفاظ على سلطة الدولة وهيبة القوانين، خصوصاً في ظل الاهتراء الحاصل في كل ادارات الدولة ومؤسساتها. من أبرز ما تحقق هو الأمن المضبوط».
اضاف: «أوحت الأحداث الأمنية التي حصلت في اليومين الفائتين وكأنّ هناك «فقسة زر» في مكان ما ، ومن خلال متابعتي ما حصل من أعمال حرق أمام المصارف، سألت نفسي هل فعلاً هؤلاء هم من المودعين أم أنّ هناك ايعازاً ما من مكان ما للقيام بما حصل؟».
من جهته قال وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي: «إنّ التفلّت الأمني ليس بمصلحة احد ولا يخدم لبنان واللبنانيين»، مشدّداً على أنّه «يجب فصل الأمن عن السياسة والوضع الأمني يعني كل اللبنانيين». وكشف بعد الاجتماع أنّه تمّ الطلب من الأجهزة الأمنية الاستمرار بالمحافظة على الأمن والنظام، وعدم التساهل بتهديد السلم الأهلي». واكّد أنّ حلّ أزمة المودعين لا يكون بأعمال الشّغب، لافتًا الى أنّنا «نريد الحفاظ على أمن المواطنين والقطاع المصرفي كنظام وقطاع، وعملنا حفظ الأمن وتطبيق القوانين».
واضاف: «أداء الأجهزة الامنية يدخل ضمن إطار خدمة الشعب اللبناني، ورأينا 90 تحرّكاً منذ بداية الشهر، 59 منها سببها الأوضاع المعيشية»، مؤكّدًا أننا «نتفهّم وجع المواطنين، إنّما نقول لهم إنّ أعمال الشغب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة ليس الحل». واوضح مولوي أنّ «الأمن يتعامل مع النتيجة، والحلّ ليس لدى القوى الأمنية، إنّما يبدأ بالسياسة وينتقل للاقتصاد».