كتبت "الجمهورية" التالي : الوقائع التي توالت منذ منتصف الاسبوع الجاري، توحي وكأنّ ثمة جهوداً متجددة تُبذل في الخفاء لتحريك المياه الرئاسية الراكدة في مستنقع التعطيل، ونقل ملف انتخاب رئيس الجمهورية من مربّع الجمود والتعطيل، إلى مربّع التحريك والتسهيل. لا شيء يؤكّد أو ينفي هذا الأمر حتّى الآن، ولن يطول الوقت، وليتأكّد ما إذا كان التعطيل هو العنوان الثابت في المشهد الداخلي، أو انّ الملف الرئاسي قد رُكّز فعلاً، على قواعد اشتباك، وتعجّل في وضعه على سكة الانتخاب.
مقاربة جديدة
وعلى الرغم من أنّ الاحتمالين قائمان، الّا انّ التعطيل يبقى الأقوى على الاقل حتى جلاء الصورة، وتبيان خلفيات وأهداف ونتائج الحراك الديبلوماسي في الإتجاهات السياسية المختلفة، الذي بدأته أولاً، السفيرة الفرنسيّة آن غريو، وكمّلته السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، فإنّ مصادر مطّلعة على أجواء الحراكين وتفاصيل المداولات التي جرت في غرف اللقاءات المغلقة، أكّدت لـ«الجمهورية» انّها تقرأ «ايجابية جدّية في الحراكين الفرنسي والاميركي؛ اولاً لإحاطتهما بصمت ولا تصريحات علنية، وثانياً، لأنّهما ليسا خطوتين منفردتين من قبل غريو وشيا، بل جاءا إنفاذاً لقرار الإدارتين الفرنسية والاميركية، وبالتالي، الحراكان غير منفصلين بل هما منسّقان ومكمّلان لبعضهما البعض. وثالثاً، لأنّهما يسيران كما هو واضح وفق ما تبدو انّها مقاربة جديدة للملف الرئاسي، قد يكون المُراد منها إيداع «رسالة ما» في صندوق البريد الرئاسي، للدفع بزخم أكبر في الاتجاه الذي يقرّب انتخاب رئيس الجمهورية وإعادة انتظام الواقع السياسي والمؤسساتي في لبنان».
ماذا يريد بري؟
وإذا كانت المصادر عينها قد افترضت أنّ لحراك السفيرتين تتمته، فإنّ الأوساط السياسية على اختلافها، منهمكة في محاولة فك شيفرة مبادرة رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى مغادرة التحفظ، إلى التسمية العلنية لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، في هذا التوقيت بالذات، كمرشّح لرئاسة الجمهورية، مؤيّد من قٍبل ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» وحلفائهما من المكونات النيابية والسياسية.
وتؤكّد مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، أنّ «مبادرة بري لم تأتِ من فراغ، كما لا تأتي في سياق ما اعتبرها البعض لعبة إخراج الأرانب من الأكمام، هكذا لمجرّد الإثارة السياسية في الوقت الضائع. فرئيس المجلس يقارب هذه المسألة بما تقتضيه من جدّية بالغة ومسؤولة، وإعلانه التأييد العلني لترشيح الوزير فرنجية، لا يعني فقط تأكيد المؤكّد ونعي زمن الاوراق البيضاء، بل وضع النقاط على الحروف الرئاسية، حيث انّ ما قاله علناً وصراحة بدعم رئيس تيار «المردة»، محصّن بما لم يقله بعد، فيما أنّ الوقت أصبح قاتلاً، وبات يفرض على جميع الاطراف تحمّل مسؤولياتهم لإخراج البلد من متاهة الفراغ التي تعمّق الأزمة وتزيد الشّروخ أكثر في الجسم اللبناني».
بري: إحسموا أمركم!
وأبلغ الرئيس بري إلى «الجمهورية» قوله: «البلد منكوب، ووضعه ينحدر من سيئ إلى أسوأ، وخطيئة التعطيل فاقمت الانهيار الذي باتت آثاره المدمّرة تهدّد حاضر البلد ومستقبله، وبالتالي لا يمكن ان يستمر الحال على ما هو عليه».
واكّد بري «انّ إتمام الملف الرئاسي بات واجباً وطنياً وانسانياً وأخلاقياً، ومن هنا كانت المبادرة إلى اعلان تأييد ترشيح الوزير فرنجية، وهي خطوة لعلّها تحفّز سائر الاطراف على تقديم مرشح او مرشحين»: وقال: «صار من الضروري ان تحصل ترشيحات، وهو أمر بديهي، حتى يحصل تنافس، ونحن جاهزون للنزول إلى المجلس النيابي، حيث أنّه في اللحظة التي تتوفر فيها فرصة التنافس، سأبادر فوراً إلى الدعوة الى جلسة انتخابية، ولتجر الانتخابات ولينجح من ينجح».
ولفت بري إلى «انني عقدت إحدى عشرة جلسة، وكما شهدنا جميعها، لم تكن سوى جلسات مسرحية، لا بل مهزلة، ولذلك لست مستعداً لأن أدعو إلى أي جلسة تتكرّر فيها المسرحية والمهزلة، كانت جميعها، وأقول انّه لن تُعقد أي جلسة الاّ بوجود تنافس.». وقال: «كانت حجتهم أنّ فريقنا لا يريد الإنتخاب، وهذا غير صحيح، كنا وما زلنا نؤكّد على انتخاب رئيس، وتوفير كل الظروف التي تمكننا من التوافق على مرشح او اثنين او أكثر وننزل الى المجلس وننتخب. في أي حال، انا قلت إنّ مرشحنا هو الوزير سليمان فرنجية، فليتفضلوا ويتفقوا على مرشح او أكثر، ولننزل إلى المجلس ونحتكم للعبة الديموقراطية في جو التنافس الصحي، وننتخب رئيس الجمهورية».
ورداً على سؤال عن إمكانية تأمين نصاب انعقاد جلسة الإنتخاب، وخصوصاً انّ بعض الأطراف اعلنت انّها ستطيّر النصاب، قال بري: «من لا يكمل النصاب، عليه في هذه الحالة أن يتحمّل المسؤولية».
من جهة ثانية، رفض بري اعتبار انّ المجلس النيابي معطّل، ودوره التشريعي مشلول، وقال: «لا احد يستطيع ان يعطّل المجلس، او ينتزع منه دوره التشريعي. فالمجلس ليس معطلاً، وما حصل في الفترة الأخيرة حول الجلسة التشريعية وامتناع بعض الاطراف عن حضورها، لا يستهدف المجلس وتعطيله، بل هو ردّ فعل على انعقاد مجلس الوزراء، أي انّ الهجوم هو على مجلس الوزراء وليس على مجلس النواب».
مراوحة في الفشل
على انّ الصورة في الجانب المقابل، لا تشي بإمكان توافق ما تسمّي نفسها قوى سيادية وتغييرية، على مرشح معيّن. حيث انّ الأجواء السائدة في هذا الجانب، تؤكّد أنّ مواقف هذه القوى ما زالت مشتتة، وتراوح في فشلها في الالتفاف حول مرشّح محدّد. وبحسب هذه الاجواء، فإنّ مساحة التشتت صارت اوسع مع سقوط ورقة ترشيح ميشال معوّض، ومع عدم القدرة على الإجماع على أي من الاسماء التي تمّ تداولها في اوساط المعارضة على مدى جلسات الانتخاب الفاشلة. حتى قائد الجيش العماد جوزف عون، وعلى الرغم من الغزل السياسي الذي يبديه بعض السياديين تجاه المؤسسة العسكرية وقائد الجيش ومواصفاته، فإنّه لا يحظى بإجماع اطراف المعارضة عليه.
واللافت في موازاة فشل القوى السيادية المعارضة في الاجتماع حول مرشح، هو تدرّج موقفها من التأكيد على عقد جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، إلى التحضير لما كانت تشكو منه، أي للعبة تعطيل نصاب جلسة الانتخاب. ويندرج في هذا السياق، ما اعلنه النائب اشرف ريفي بعد لقائه رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في معراب، بـ»أننا لسنا جمعية خيرية لنؤمّن النصاب للفريق الآخر لانتخاب رئيس من محور الممانعة، بل سنعطّله».
وقالت مصادر معارضة لـ»الجمهورية»، انّ الضرورة تحتّم اجتماع القوى السياديّة على مرشّح، ومن هنا نكرّر النداء إلى كل مكونات المعارضة بالتوحّد حول سيادي، وخصوصاً انّ الفرصة كبيرة جداً في أن يكمّل توحّد المعارضة الانتصار الذي تحقق في الإنتخابات النيابية، ويفرض إيصال شخصية سياديّة وتغييرية إلى سدّة رئاسة الجمهورية.
ورداً على سؤال اعتبرت «انّ مبادرة الفريق الآخر إلى اعلان تأييد فرنجية لا تنطوي على اي جدّية، ولا تعكس الرغبة في تسهيل إجراء الانتخابات الرئاسية، وخصوصاً انّ هذا الامر ليس جديداً، حيث انّ مرشّحهم معروف منذ الجلسة الاولى لانتخاب الرئيس، ومع ذلك طيّروا نصاب الجلسة».
ولفتت المصادر إلى انّ «التوافق الذي يدعون اليه، هو توافق يفضي إلى انتخاب مرشحهم، فهذا الامر مرفوض، وموقفنا واضح لهذه الناحية، بأنّه لا يمكن القبول بانتخاب رئيس خاضع لفريق الممانعة، ويُدار وفق مشيئة ومصالح «حزب الله». وقالت: «عدم انتخاب رئيس يبقى افضل بكثير من انتخاب رئيس من محور الممانعة، وسنستخدم كلّ الوسائل الديموقراطية لمنع حصول ذلك، بما في ذلك عدم توفير نصاب انعقاد جلسة الانتخاب».
التيار على لاءاته
من جهة ثانية، اكّدت مصادر في «تكتل لبنان القوي» لـ«الجمهورية»، انّ اولويّة «التيار الوطني الحر» هي إجراء اوسع حوار للتوافق على رئيس للجمهورية من خارج الأسماء المتداولة التي تُطرح من باب التحّدي. يحمل برنامج اصلاحات، ويتمتع بالحيثية الشعبية والسياسية الوازنة.
وإذ لفتت المصادر إلى لاءات «التيار الوطني الحر»، «لا لرئيس يواصل مسار الفساد، ولا لرئيس يشكّل تحدّياً للمسيحيين، ولا لرئيس يشكّل استمراراً لنهج إسقاط البلد، ولا لرئيس تفرضه إرادات خارجية»، اعتبرت انّ ما يُطرح من ترشيحات، الغاية منه إعادة عقارب الزمن إلى الوراء ومراحل تحكّم منظومة الفساد، وهذا ما سنواجهه».
وتبعاً لذلك، لم تستبعد المصادر احتمال ان يبادر رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل إلى ترشيح نفسه. واعتبرت في الوقت ذاته، «انّ أفق ايّ تسوية لفرض رئيس للجمهورية مسدود، وأي محاولة في هذا الاتجاه سواء أكانت من الخارج، او من خلال تكتلات داخلية، سنكون في موقع المواجه لها بكمل ما اوتينا من قوة وصلابة».
«التقدمي» يُربك المعارضة
واللافت في هذا السياق، انّ الموقف الأخير لـ«الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي انحاز بشكل واضح إلى الرئيس بري، امام الهجوم الذي استهدفه في الساعات الأخيرة، وتبنّى دعوته إلى الحوار سعياً للتوافق على رئيس للجمهورية، ودعا إلى وقف ما سمّاها البيانات والمواقف الهمايونية، في اشارة مباشرة إلى البيان الهجومي على بري الصادر عن النائب ميشال معوض، أربك الجبهات المعارضة، وأثار تساؤلات في اوساطها حول ما دفع بالتقدمي إلى هذا الدخول المفاجئ على الخط والانتصار لموقف بري.
لا للغة السوقية
واكّدت مصادر «اشتراكية» لـ«الجمهورية»، انّ «موقفنا يعكس بالدرجة الاولى انسجامنا مع انفسنا، وقناعتنا بأنّ الحوار والتوافق يشكّلان السبيل الوحيد لانتخاب رئيس للجمهورية. واما من جهة ثانية، من غير المقبول ان ينحدر الخطاب السياسي إلى المستوى من الصبيانية والكلام السوقي الذي سمعناه، ومن المعيب ان يُوجّه مثل هذا الكلام إلى شخصية كالرئيس نبيه بري. وانطلاقاً من حرصنا على ما يحرص عليه الرئيس بري وسعيه لإنقاذ البلد وفتح مجالات الحوار للتوافق، كان لا بدّ من أن نؤكّد على ما نحن مقتنعون به».
وإذ لفتت مصادر سياسية إلى عمق العلاقة التاريخية التي تجمع بين بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وصفت البيان الاخير للحزب التقدمي بـ«البيان المفصلي» الذي يؤكّد في ثناياه انّه ليس عفوياً، بل انّه بيان مدروس يؤكّد بما لا يقبل أدنى شك انّ خلف الأكمة الاشتراكية ما خلفها، وخصوصاً في ما يتعلق بالملف الرئاسي».
حراك شيا
في هذه الاجواء، واصلت السفيرة الاميركية دوروثي شيا تحركها بين المستويات اللبنانية، حيث زارت امس النائب ميشال معوض، الذي قال انّ يدنا ممدودة، ولكن لا تسوية في مطلب الرئيس الاصلاحي السيادي. ولن نقبل برئيس يشكّل امتداداً لـ«8 آذار».
على انّ اللافت في التحرّك الخارجي، هو ما بدت انّها مواظبة يومية للمنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا، على التغريد لدقّ ناقوس الخطر تجاه الوضع اللبناني، وجديدها قولها في تغريدة امس: «في ظلّ تفاقم التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه لبنان، بات توسيع شبكات الأمان الاجتماعية والتخفيف من حدّة الفقر ومعالجة الأمن الغذائي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى لحماية شرائح المجتمع الأكثر ضعفًا. أجندة إصلاحية تركّز على الناس هي ما يحتاجه اللبنانيون ويستحقونه».