كتبت "الجمهورية" التالي : بات من المسلّم به لدى جميع المعنيين بالملف الرئاسي، انّ مقاربة هذا الملف انتقلت الى مستوى أعلى من الجدية، بالتزامن مع حديث متزايد داخل الغرف المغلقة عن احتمال حصول مفاجآت غير محسوبة.
ظاهر الأمور الداخلية يَشي بأنّ الانقسام الحاصل بين مكونات الصراع السياسي، من النوع الذي يستحيل لحمه، ربطاً بعمق التناقضات فيما بينها سواء على الأساسيات او على الثانويات، وجنوحها الدائم نحو الصدام وإغلاق كل المعابر المؤدية الى توافق على انفراج رئاسي، الّا انّ الوقائع التي تدحرجت على المشهد الرئاسي في الأيّام الاخيرة، أوحَت وكأنّ خلف الأكمة الرئاسية «جهداً ما» يبذل لإنضاج الطبخة الرئاسية.
3 أمور
حتى الآن، لم يخرج شيء إلى العلن يؤكّد ذلك أو ينفيه، إلّا أنّ ثلاثة امور تلفت الانتباه في المجريات المتسارعة على الخط الرئاسي:
الأمر الأول، هو أنّ بعض العاملين بصورة مكثفة على هذا الخط، يغرّدون خارج سرب السلبية التي تبدو انها حاكمة للمشهد الرئاسي، ويجزمون بأنّ الأمور ليست مقفلة. وبالتالي، فإن كل الاحتمالات الايجابية واردة في أي لحظة.
الامر الثّاني، يتجلّى في الحركة الديبلوماسية، التي بدأت التحرّك على أكثر من خط داخلي، والتي تتّسِم في ظاهرها بطابع حثّ القيادات السياسيّة على التعجيل بانتخاب رئيس للجمهورية، إنفاذاً لِما توافق عليه اصدقاء لبنان، لا سيما في الاجتماع الخماسي في باريس، واما في باطنها فتذهب الى أبعد من ذلك، بالسعي الى حَمل هذه القيادات على صياغة تسوية توافقية، لا «فيتوات» فيها على أيّ مرشّح مفترض لرئاسة الجمهورية، وتُفضي إلى الحسم الايجابي للملف الرئاسي، وللفرنسيين دور أساس في هذا السياق.
الأمر الثالث، هو حال الارباك التي سقطت فيها معظم المكونات السياسية، غداة مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى الاعلان الصريح بتأييد ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وملاقاته من الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بتبنّي هذا الترشيح، وفق خريطة لاءات حدّدها: لا لاستمرار الفراغ... لا نقبل أن يفرض الخارج على لبنان رئيساً للجمهورية... لا نسمح أن يفرض أي «فيتو» من الخارج على أيّ مرشح للرئاسة... لا رهان على تسويات خارجية، ولا رهان على أوضاع اقليمية او دولية. وهذا الارباك، تجلّى من جهة في التزام بعض المكونات الصمت، ومحاولة قراءة ما خلف الأكمة الرئاسية، ومن جهة ثانية، في انفعال واضح لدى البعض الآخر، عبّر عن نفسه بإعادة تكرار المواقف الاعتراضية ذاتها على بعض المرشحين، وكما تؤكد معلومات موثوقة لـ»الجمهورية» أنّ إرباك هذه الفئة من رافضي التوافق على رئيس للجمهورية، فاقَمَته خشية هؤلاء من أن يكون أمر ما يجري من تحت أرجلهم، وتبعاً لذلك سارع البعض منهم الى طرق العديد من الابواب الديبلوماسية طلباً لأجوبة وتوضيحات.
إكتمال الصورة
على أنّ الصورة التي بدأت مع حسم ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» تأييدهما ترشيح فرنجية، ووفق ما تؤكد مصادر واسعة الاطلاع لـ»الجمهورية»، يفترض ان تكتمل في الايام القليلة المقبلة وربما نهاية الاسبوع الجاري أو مطلع الاسبوع المقبل على أبعد تقدير، عبر مبادرة الوزير فرنجية الى إعلان ترشيح نفسه رسمياً، ومن شأن ذلك أن يثبّت الكرة في ملعب الفرقاء الآخرين».
الى ذلك، أبلغ مرجع كبير إلى «الجمهورية» قوله «انّ مصير الملف الرئاسي متوقّف على ما ستعلنه سائر الاطراف، وبالتالي لا يمكن تحديد اي مواعيد للجلسة الانتخابية، سواء اكانت مواعيد قريبة او بعيدة، ولنقل بصراحة انّ ترشيح فرنجية بصورة رسمية لا يعني انه يكسر حلقة التعطيل القائمة، بل انه يعرّضها لهزة يفترض أن تدفع الاطراف الأخرى الى الانتقال من خلف المنابر الاعتراضية المتمترسة فيها منذ بداية الشغور في رئاسة الجمهورية، إلى تحديد خياراتها الجدية بصورة نهائية، وتقديم مرشحهم او مرشحيهم لرئاسة الجمهورية، ومن ثمّ الإنخراط في اللعبة الديموقراطية وانتخاب رئيس للجمهوريّة في جَوّ تنافسي، ومن يربح يربح».
وعندما يقال للمرجع إن مواقف الاطراف معروفة وعبّرت عن رفضها انتخاب رئيس غير سيادي او تغييري، يُسارع الى القول: جيّد، فليحدّدوا هذا المرشّح، ولننزل الى المجلس الينابي وننتخب، ومن يحصل على اكثرية الأصوات نبارك له
لكنّ هذه الأطراف أكّدت انها ستلعب لعبة النصاب، وستعطّل اي جلسة لانتخاب رئيس من محور الممانعة، فقال المرجع: لعبة النصاب سهلة، وفي مقدور الجميع أن يمارسوها من دون ان يتمكنوا من فرض اي تغيير في قواعد اللعبة، ذلك انه مهما طال أمد لعبة النصاب، ستصطدم بلحظة الحقيقة، واكثر من ذلك لن يكون في مقدور أحد أن يستمر بهذه اللعبة الى ما شاء الله، حيث أن لها نهاية حتمية إنْ عاجلاً او آجلاً، فلماذا إذاً تضييع الوقت والتسبّب بأضرار اضافية على البلد، طالما أنه في نهاية المطاف، سينزل الجميع في لحظة ما إلى المجلس النيابي لانتخاب الرئيس. ومن هنا فإنّ أسهل الطرق الى انتخاب الرئيس هو أن يسمّي كل طرف مرشّحه، وليحشد له، ولنحتكِم الى صندوقة الاقتراع.
أبعد من الرئاسة
الى ذلك، وفي الوقت الذي يعكس زوار بكركي ضيقاً كبيراً من انسداد الافق الرئاسي لا يستثني أحداً، يعبّر عنه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي، وما العظة الاخيرة الاحد الماضي سوى غيض من فيض ممّا يعتريه من سخط على تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، ومن قلق جدي على رئاسة الجمهورية ومصير البلد كياناً وشعباً وهوية، فإنّ مصادر موثوقة كشفت لـ»الجمهورية» بعضاً من نقاشات جَرت في صالونات سياسية وروحية في الآونة الأخيرة، لا تبرّىء أحداً من تهمة التعطيل، ونضحت بمخاوف كبيرة ومخاطر اكبر على البلد جرّاء هذا المنحى».
وفَصّلت المصادر تلك المخاوف والمخاطر بقولها انها نابعة من شعور بأنّ لبنان بلغ الحد الاعلى من الخطر، وعامل الوقت امام فرص النجاة قد استنفد، والتعطيل الحاصل يخشى أن تترتب عليه «تداعيات مدمّرة» اكبر مما هو منظور.
ونسبت الى مسؤول سياسي كبير قوله امام بعض المقرّبين في مجلس خاص: «إانتخاب رئيس الجمهورية ينجّينا من مأزق أعظم نشهده في هذه الفترة، فتعطيل انتخاب الرئيس قد يفرض استمراره وقائع أخطر بحيث نكون في مشكلة فنصبح في مشكلة أكبر، لا أتحدث هنا فقط عن انهيار اقتصادي ومالي، بل عن تطورات منظورة وغير منظورة، تتولّد عن استمرار التعطيل، وقد تسابق الجميع، وتفتح الباب واسعا امام مخاطر قد لا تنحصر أضرارها بموقع رئاسة الجمهورية، بل يخشى ان تكون عارمة وخساراتها أكبر، وتصل إلى لحظة يطرح فيها مصير الدولة والنظام والتركيبة السياسية على بساط البحث، وهذا بالتأكيد وضع كارثي، والخسارات فيه ستكون أعمق وأعمّ، وساعتئذ الله يرحم الطائف».
بري: ننتظر الترشيحات
في هذه الأجواء، ما زال الرئيس بري يعوّل على استفاقة داخلية تُخرج الملف الرئاسي من أسر التعطيل، وتضعه على جادة الصواب السياسي، التي تؤدي الى انتخاب رئيس للجمهورية في اقرب وقت ممكن.
واذا كان الرئيس بري يعتبر انّ إعلانه دعم ترشيح الوزير فرنجية لرئاسة الجمهورية (الذي لاقاه فيه «حزب الله»)، ليس تحدياً لأحد، فإنّه يعتبر في الوقت نفسه انّ هذا الامر يفترض أن يحرّك المياه الرئاسية الرّاكدة، ويكسر حلقة السّجالات والمواقف الصدامية العقيمة، ويحثّ سائر الأطراف على تقديم مرشّحها أو مرشّحيها، والذهاب بنوايا جدية الى انتخاب رئيس للجمهورية، فهذا هو الامر الطبيعي الذي يجب ان يحصل.
وفي موازاة إمعان بعض الاطراف الداخلية في رَمي سنّاراتهم في مستنقع التعطيل، فإن الرئيس بري يعتبر أنه لم يعد ثمة موجب لتأخير انتخاب رئيس الجمهورية، فالتأخير تترتّب عليه أكلاف يومية باهظة على البلد وعلى الناس، وهو ما شهدناه في الاشهر القليلة الماضية. وبالتالي، آن الأوان لأن نسير في اتجاه الانتخاب، وهذا بالتأكيد يستوجِب وقفة مسؤولة توقِف هذا الانحدار، والأمر الطبيعي في هذا السياق هو ان تتوالى الترشحيات من دون إبطاء، والتي في ضوئها أدعو الى جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في جو من التنافس الديموقراطي، وبالتأكيد قبل ان ألمس وجود ترشيحات وتنافس لن أبادر الى توجيه الدعوة الى جلسة لانتخاب الرئيس.
تسوية كانت ممكنة
الى ذلك، وفي معلومات موثوقة لـ»الجمهورية» انّ الملف الرئاسي كان قبل فترة غير بعيدة قاب قوسين او ادنى من أن يحسم في سياق تسوية توافقية تُفضي الى سلة متكاملة تشمل رئاستي الجمهورية والحكومة، الى أن فُشّلت في مراحلها الاخيرة.
وإذ لفتت مصادر المعلومات الموثوقة الى الزيارات المتتالية التي قامت بها السفيرة الفرنسية آن غريو (لثلاث او اربع مرات خلال شهر)، الى عين التينة ولقائها الرئيس بري، أكدت المصادر ان باريس أدّت دورا اساسيا في صياغة هذه التسوية، التي تحظى بدعم من «اصدقاء فرنسا»، وتقوم في جوهرها على معادلة «فرنجية - سلام»، أي انتخاب الوزير سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية، واختيار السفير نواف سلام لرئاسة الحكومة. وقد وافقَ عليها ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله»، الا أنها اصطدمت برفض رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل.
وبحسب المصادر «انّ الباب لم يقفل بعد على تمرير أي تسوية»، مشيرة في هذا السياق الى «انّ الاتصالات ما زالت مفتوحة، ولا نقول ان الامور مُيسّرة حتى الآن، الا اننا لا نستبعد ظهور مفاجآت في اي لحظة».
يُشار في هذا السياق، بحسب معلومات «الجمهورية»، الى انه بالتزامن مع الحماسة الفرنسية لإتمام انتخابات رئاسية بصورة عاجلة، ارسل الاتحاد الاوروبي إشارات مماثلة الى كبار المسؤولين في لبنان، تشدد على الحاجة الملحّة للبنان لصياغة تسوية قبل فوات الأوان، تُفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية واعادة تكوين السلطة في لبنان، والمُسارعة إثر ذلك الى التوجّه سريعاً الى عقد برنامج تعاون مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً انّ الوضع في لبنان في انهيار مُتسارع الى حدود قد يصعب احتواؤها، وتفاقم من معاناة الشعب اللبناني».
فرنجية: الدستور ضمانة
وكان الوزير فرنجية قد لبّى دعوة رئيس دير مار جرجس في بلدة عشاش قضاء زغرتا الاب كليم التوني الى مائدة الغداء، جرياً على تقليد سنوي، وكانت له كلمة أكد فيها «اننا مسيحيون أبّاً عن جد، بالايمان والعقيدة والسياسة، والجميع يشهد على تاريخنا». وقال: «اننا مسيحيون عروبيون ونحن من بيت عربي نؤمن بالعروبة وبالحوار وبأفضل العلاقات مع الجميع لأن مستقبل البلد بوحدته وبالعيش المشترك».
واذ اشار فرنجية الى ان «المسيحية الحقيقية هي بالحوار والانفتاح والمحبة والمسامحة وليُراجع كل انسان ضميره ويرى من يجسّد هذه القيم ومن لا يجسدها»، قال: «موقفنا السياسي على جبيننا ولا نخجل به لا بل نعتزّ، لأننا ما من يوم سعينا فيه الى الفتنة بل لطالما كنّا منفتحين على الجميع وعملنا وسنعمل لكل لبنان».
واشار الى أنه «بالأمس كانت مقاطعة جلسة النواب خطيئة مميتة وضد الدستور عند البعض، امّا هذا البعض فإنه اليوم يعتبر هذه المقاطعة حقاً». وقال: «المسيحيون يتّفقون على السيّئ وليس على الايجابي، وحبّذا لو كانوا يتفقون لمرة واحدة على الايجابي وليكن الدستور هو الضمانة، اما اذا كانوا لا يريدون الدستور فلتكن لديهم الجرأة للمطالبة بتعديله، ولكن ان نكون مع الدستور عندما يناسبنا ونكون ضده اذا انتفَت مصلحتنا، فهذا لا يجوز».
وقال: «علينا ان نطبّق الدستور بالانتخابات الرئاسية»، لافتاً الى انه «بعدم تطبيقه نكون كمجلس ملّة بحيث تتفق الاحزاب المسيحية الاربعة على رئيس وعندها لا لزوم للانتخابات. فهل هذا ما يريدونه»؟
ولفت الى انه بـ»انتخاب الرئيس يجب ان يتوفّر حضور ثلثي المجلس، ما يعني ضرورة حضور نصف النواب المسيحيين للجلسة وهذا يؤمّن الميثاقية».
الأمن في السرايا
وكان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي قد أكد بعد زيارته بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي «ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية في أسرع وقت، لأنّ باب الخلاص في الوقت الحاضر هو قيام المؤسسات الدستورية بعملها كاملاً، وان يبدأ المسار بانتخاب رئيس جمهورية ومن ثم تشكيل حكومة جديدة للقيام بالاصلاحات المطلوبة ومواجهة الصعوبات التي نمر بها اقتصادياً واجتماعياً».
من جهة ثانية، عقد ميقاتي اجتماعاً في السرايا الحكومية بين وزير الدفاع في حكومة تصريف الاعمال موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزف عون، جرى فيه «الاتفاق على حل التباينات بروح التعاون حفاظاً على الجيش ودوره وعلى العلاقة الوطيدة بين وزير الدفاع وقائد الجيش».
وتَبع ذلك ترؤس ميقاتي اجتماعاً أمنياً حضره وزير الدفاع ووزير الداخلية بسام مولوي، وقائد الجيش والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، والمدير العام للأمن العام بالوكالة العميد الياس البيسري والمدير العام لوزارة المال جورج معراوي.