كتب بشارة غانم البون في "موقع 180" التالي :
كلامٌ كثيرٌ متداولٌ حول مستقبل المساعي الفرنسية للمساعدة في ايجاد مخارج للأزمات المستعصية والمتفاقمة في لبنان وفي مقدمها الاستحقاق الرئاسي، وذلك في ضوء الاتصالات والمشاورات الديبلوماسية الأخيرة التي شهدتها باريس وتزامنها مع تزايد حجم المشاكل السياسية والاجتماعية الداخلية التي يواجهها الرئيس إيمانويل ماكرون.
من يتابع في هذه الأيام الاحتجاجات العمالية والاضرابات التي تشهدها فرنسا للتنديد بمشروع الحكومة لاصلاح نظام التقاعد ورفع السن من 62 الى 64 سنة، ولا سيما صور التظاهرات الكثيفة في شوارع المدن الفرنسية، وما يرافقها من أعمال عنف، يُخيّلُ إليه أن عجلة الحياة متوقفة في فرنسا وأن الحركة مشلولة والفوضى منتشرة في كل مكان!
في البداية لا بد من الإقرار بأن تطورات الداخل الفرنسي مقلقة للغاية، حيث أن تسعة أصوات فقط داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) حالت دون حجب الثقة النيابية عن الحكومة التي ترأسها ايزابيل بورن، إلا أن استمرارية حكم ماكرون غير مهددة.
بالطبع، لا أحد يُنكر أن الرئيس الفرنسي أصيب بأكثر من نكسة على الصعيد الداخلي (وآخرها تأجيل زيارة ملك بريطانيا شارل الثالث لفرنسا التي كانت مقررة مطلع الأسبوع المقبل، وهي الزيارة الرسمية الأولى له خارج بلاده منذ خلافته والدته أليزابيت)، كما يواجه ماكرون أزمة ثقة شعبية كبيرة قد تفتح الباب أمام إحتمالات كثيرة ليس أقلها تغيير الحكومة الحالية وإعادة النظر في الخطط الإصلاحية المتعددة.
كل هذه التطورات من شأنها إضعاف ماكرون داخلياً وتضييق هامش حكمه، إلا أن السؤال هل يمكن أن تؤثر على قدرته وحركته خارجياً؟
يسارع بعض المراقبين للقول بأن الأزمة الداخلية لن تكون لها تأثيرات خارجية بل على العكس “ستعمد باريس الى مضاعفة تحركها الديبلوماسي علّها تُعوض بإنجاز خارجي ما.. فشلها الداخلي”.
المصالح تتفوق على العواطف
وهنا يبرز السؤال الآتي: هل من انعكاسات مباشرة لهذا الوضع الفرنسي الداخلي المتشنج وغير المستقر على تحرك باريس على صعيد الوضع اللبناني المتدهور والمتأزم؟
تلتقي أوساط فرنسية ولبنانية متابعة للملف اللبناني على الآتي: صحيح أن انشغال الحكم الفرنسي بتردي الوضع السياسي والاجتماعي الداخلي يجعله يُعيد ترتيب أولوياته، إلا أن ذلك لن يحول دون متابعة الإهتمام بالأزمة اللبنانية المتشعبة الوجوه. وتُعيد هذه الأوساط إلى الذاكرة سابقة في ظروف فرنسية داخلية لا تقل صعوبة ودقة. ففي العام 2001 وكان يومها الرئيس الراحل جاك شيراك في قصر الأليزيه، بادر الرئيس الفرنسي اليميني في ظل حكومة يسارية يرأسها الاشتراكي ليونيل جوسبان (في إطار ما أسميت “عملية التعايش” بين رئيس جمهورية يميني وأكثرية نيابية يسارية) إلى الدعوة الى مؤتمر “باريس 1” بغية حشد التأييد الدولي للبنان، وكان رفيق الحريري قد عاد للتو إلى رئاسة الحكومة بعد إنتخابات العام 2000.
وترى هذه الأوساط أنه أبعد من “العواطف” الفرنسية التقليدية حيال لبنان هناك كمٌ مهمٌ من “المصالح” تدفع بباريس إلى متابعة الاهتمام الوثيق بمستقبل الوضع في لبنان. وتُعدّد الأوساط هذه المصالح بدءاً من تشغيل مرفأ بيروت ومرفأ طرابلس مروراً بالتنقيب عن الغاز والنفط عبر شركة “توتال” ومشاريع الطاقة البديلة وشركة “كهرباء فرنسا” وصولاً الى “الجسر الفرنكوفوني” التربوي والثقافي.. كل ذلك من شأنه إدراج إهتمام باريس في صلب الإستراتيجية الفرنسية المشرقية والمتوسطية.
تطور مقاربة فرنسا الرئاسية
في هذا السياق، ينبغي رصد المتابعة الفرنسية للملف اللبناني المنوطة بجهات ثلاث: الخلية الديبلوماسية الرئاسية في شقيها السياسي والاقتصادي – المالي؛ الإدارة الديبلوماسية في وزارة الخارجية؛ ونشاط الأجهزة الأمنية واتصالاتها في باريس وبيروت وعواصم أخرى.
وتعترف الأوساط المتابعة للملف اللبناني بأن أخطاء عدة ارتكبت منذ التحرك الرئاسي الفرنسي الذي رافق انفجار مرفأ بيروت في مطلع شهر آب/ أغسطس 2020، ما دفع باريس إلى إجراء تعديل في كيفية مقاربتها الأحادية للشق الإقليمي والدولي من تحركها عبر إشراك مروحة أكبر من الفرقاء المعنيين (الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر) بغية توفير ظروف وشروط أفضل لنجاح مساعيها وضمان أكبر حشد من الدعم السياسي والديبلوماسي والمالي لخطواتها، إلا أن هذه الأوساط تُقر في الوقت نفسه بأن المقاربة الفرنسية للجزء اللبناني لتحركها (أقله على صعيد الخلية الرئاسية) ما زالت تتأثر بمجموعة فرنسية – لبنانية لصيقة متعددة المصالح في وقت تتحرك الخارجية والأجهزة (الأمنية) بمعزل عن هذه التأثيرات.
ولكن ماذا عن تفاصيل هذه المقاربة بالنسبة للإستحقاق الرئاسي في لبنان؟
تشير هذه الأوساط إلى أن التصور ينطلق دائماً من رسم المواصفات وتحديد المعايير للشخص وملاءمة الظروف الاقليمية والدولية لأي خيار.
ثلاثية فرنجية – سلام – عساف؟
كانت الأولوية والأفضلية لخيار “الاستقرار والانفتاح على الجميع في الداخل وفي الوقت نفسه إعطاء إشارة ثقة إلى الخارج” والمتمثل بقائد الجيش العماد جوزف عون. ثم بدأت حظوظ الوزير السابق سليمان فرنجية تبرز من خلال نقاط القوة التي يحظى بها ترشيحه ومنها دعم ثنائي حركة أمل وحزب الله وتواصله مع الحكم السوري وقبوله المبدئي من الفريق السني، إلا أن نقاط الضعف بدأت تتراكم من تحفظ إقليمي (سعودي) وعدم حماسة دولية (أميركا)، فضلاً عن نقطة ضعف داخلية أساسية تتمثل بعدم قبول المكونات السياسية المسيحية ولا سيما المارونية بترشيحه.
أما بالنسبة لما أشيع حول “تسوية ـ صفقة – مقايضة” تأتي بالسفير نواف سلام الى رئاسة الحكومة، فقد نقل عن الأخير أن ظروف وصوله تتطلب قبولاً سعودياً ـ مسيحياً ـ تغييرياً (نواب التغيير).
وعن وصول سمير عساف الى حاكمية مصرف لبنان، فقد تردد أنه لم يعد متحمساً كثيراً إلى تبؤ هذا المنصب بعد حصوله مؤخراً على منصب متقدم في إحدى كبريات المؤسسات المالية الدولية. ومن هنا بدأ التداول بأسماء أخرى.
تقدم الخيار الثالث
مع بروز عوامل داخلية وتطور الظروف الإقليمية (الإتفاق السعودي -الايراني)، برزت متطلبات جديدة واكبتها مفردات جديدة تدعو إلى “خيارات لا تحدٍ فيها ومن شأنها أن تحفظ التوازن”، وترجمتها تكون باللجوء الى “خيارات تتناسب والانفتاح نحو الجميع في الداخل وتشكل مصدر اطمئنان لهم اضافة الى ثقة الخارج”.
ومن أبرز مؤشرات هذا التوجه تحرك “الثنائي الشيعي” إن من خلال موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري حول ضرورة “التوافق” مع السعودية بشأن الخيار الرئاسي او من خلال تحرك حزب الله البعيد عن الأضواء وفتح أبوابه امام عدد من مرشحي الخيار الثالث ووصولاً إلى اجراء ما يشبه “امتحان النوايا” مع كل واحد منهم، بغية الحصول على “تعهدات والتزامات واضحة ومسبقة” قبل تحديد الخيار النهائي. ومن الثابت أن رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط يجهد كثيراً في اتجاه بلورة هذا الخيار الثالث داخلياً وتسويقه خارجياً.
وقد برزت في الأيام الأخيرة دعوة خارجية ملحة إلى الإسراع في تحريك الملف الرئاسي خصوصاً مع تدحرج الإنهيار المالي والنقدي والإجتماعي والخشية من إرتداد ذلك على الاستقرار الأمني من خلال إنفجار إجتماعي كبير، إضافة إلى أخطار النزوح وتداعياته غربياً.. على أن يكون هذا الخيار الرئاسي ملازماً لـ”مرحلة انتقالية إصلاحية مالية واقتصادية” في انتظار بلورة التحولات الاقليمية ومعرفة كيفية تطور التركيبة الحالية للنظام اللبناني حيث باتت هناك قناعة راسخة بضرورة إجراء “اعادة نظر هادئة وعميقة ومتزنة وواقعية في الصيغة السياسية الحالية الفاشلة” بهدف الوصول الى “صيغة جديدة متطورة تضمن التعددية والإنماء المتوازن في إطار الوحدة وتؤمن ديمومة البلد وتطمئن شعبه وتستعيد ثقة الخارج به”.