كتبت صحيفة "الجمهورية" تقول : تتسارع التطورات على أكثر من خطوط مختلفة داخلياً واقليمياً، فعلى مستوى العلاقات العربية- العربية إنفراجات تتوالى، وعلى المستوى السعودي- الايراني مسار متسارع نحو إنهاء حقبة الصدام والانتقال إلى حالة السلام والوئام. الّا انّ اللافت للانتباه وسط هذه الأجواء، هو دخول العامل الاسرائيلي بشكل مكثف في الآونة الاخيرة، وتصعيد العمليات الحربية في سوريا، واستهدافاته لمجموعات ايرانية واخرى موالية لها، ما أشاع أجواء توتر شديد تصاعدت بشكل ملحوظ في الساعات الاخيرة، وتمدّدت نحو الحدود الجنوبية للبنان، مع إعلان اسرائيل عن إسقاط مسيّرة ليل الاحد الاثنين، وإتباعها ذلك برفع حالة التأهّب على الحدود مع لبنان، وكذلك رفع وتيرة التهديد، حيث اعلن وزير الدفاع الاسرائيلي "انّ التوتر يسود جميع الجبهات، ولن نتيح لإيران و"حزب الله" ووكلائهما المساس بنا".
نوايا تصعيد
في ظلّ هذه التطورات، تبدو المنطقة مشرّعة على شتى الاحتمالات، حيث يُخشى من نوايا تصعيدية تبيتها اسرائيل، تقابلها في الجانب اللبناني اجواء حذر واستنفار غير معلن من قِبل "حزب الله"، فيما لا يقلّ الوضع الداخلي إرباكاً عن إرباكات المنطقة، حيث انّه وفي ظلّ انعدام الضوابط السياسية والمالية والاقتصادية، مشرّع اكثر من اي وقت مضى على احتمالات يُخشى ان تكون شديدة السلبية.
الخيط الأبيض والخيط الأسود
في الملف السياسي، لا جديد داخلياً حول رئاسة الجمهورية، فيما تكثف الحراك الديبلوماسي على اكثر من مستوى، ولاسيما من قِبل السفيرة الاميركية دوروثي شيا، التي كانت لها محطتان بالأمس مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي، وفي مقرّ رئاسة المجلس النيابي في عين التينة مع رئيس المجلس نبيه بري.
وعلى المقلب نفسه، انتهت السكرة التي رافقت زيارة رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية إلى باريس، بالتحليلات الواقعية وغير الواقعية او بالتشويشات الانفعالية، فعادت مكونات التعطيل الرئاسي إلى ارض الواقع، وانتقلت من السيناريوهات المتخيّلة وفق الميول الشخصية والمصلحية التي أُحيطت بها زيارة فرنجية، إلى محاولة تلمّس النتائج الحقيقيّة للمحادثات التي اجراها، وخصوصاً انّ الرياح الفرنسية لم تحمل سوى مزيد من الصمت حيال ما دار من مباحثات ونقاشات وطروحات خلف جدران الاليزيه..
وإذا كان المستفَزّون من زيارة فرنجية قد قرأوا في هذا الصمت رسالة سلبية تصبّ في غير مصلحة فرنجية، خلافاً لما ذهب اليه داعموه باعتبار الكتمان علامة ايجابية، وانّ فرنجية ثبّت قدميه فعلاً على الخط الرئاسي، الّا انّه وعلى ما هو مؤكّد، فإنّ عودة فرنجية إلى بيروت ينبغي ان تجيب عن مجموعة كبيرة من الاسئلة طُرحت من جهات مختلفة، تمحورت جميعها حول ما إذا كان الملف الرئاسي قد دخل فعلاً دائرة الحسم النهائي، وما هي الخطوات التالية ربطاً بزيارة فرنجية الباريسية، وهل ثمة ما يؤكّد انّ لبنان اقترب فعلاً من موعد الانتخابات الرئاسية؟
العين على فرنجية
على ما تؤكّد مصادر سياسية موثوقة لـ"الجمهورية"، فإنّ "الحراك الخارجي المكثف سواء من الاجتماع الخماسي، او اللقاءات الثنائية الفرنسية- السعودية، وما تلا ذلك من حراكات، يؤشر إلى انّ الملف الرئاسي موضوع على النار الدولية والاقليمية، وانّه وضع على طريق الحسم، وإن استغرق سلوك هذا الطريق بعض الوقت، انما الاكيد ليس وقتاً طويلاً".
واعتبرت المصادر "انّ التخبّط الداخلي هو النتيجة الطبيعية لانعدام الرؤية"، وقالت: "سيمضي وقت طويل قبل ان تستفيق مكونات الداخل من الإرباك الذي سقطت فيه بمجرد الاعلان عن الزيارة الباريسية وتفاقم مع حصولها".
ورداً على سؤال قالت المصادر: "ليس ما يُقال حالياً عن الزيارة ونتائجها، ومن يدّعي انّه يملك اي معطيات حول ما دار بين سليمان فرنجية وباتريك دوريل، فهذا ادّعاء يجافي الواقع، والقصد منه إثارة الغبار في الاجواء، وهذا ينطبق على كل ما جرى ترويجه من تحليلات او تسريبات او سيناريوهات، التي ثبت انّها كلها لا أساس لها، ولا تمتّ إلى ما بحثه الجانبان بصلة. وفي أي حال، ومع عودة فرنجية، فإنّه لتبيان المسار الذي يسلكه الملف الرئاسي ينبغي من جهة، ان تتركّز العيون على الحراك المنتظر لرئيس "المردة" في الداخل، بدءًا بداعميه، وفي ضوء هذا الحراك يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود. اما من جهة ثانية، فإنّ الملف الرئاسي دخل منطقة العدّ العكسي لإتمامه، وحراك الاصدقاء والاشقاء متواصل، وباب المفاجآت التي تصبّ في الحسم السريع للانتخابات الرئاسية أعتقد انّه مفتوح".
الحضور القطري
ويندرج في سياق هذا الحراك الحضور القطري في بيروت امس، وكانت لافتة للانتباه مروحة اللقاءات السياسية الواسعة التي اجراها وزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية الدكتور محمد بن عبد العزيز الخليفي. وقالت مصادر موثوقة لـ"الجمهورية"، انّ زيارة الخليفي لا تندرج في سياق مبادرة قطرية معزولة عن الجهود الفرنسية- السعودية حيال الملف اللبناني، بل انّها زيارة استطلاعية توفيقية، مكمّلة لتلك الجهود، كعامل مساعد على بلورة تفاهم داخلي على انتخاب رئيس للجمهورية.
ولفتت المصادر إلى انّ ما شدّد عليه الوفد القطري في لقاءاته يتلخص بأنّ الجانب القطري على يقين من انّ "انفراج الملف الرئاسي في لبنان ليس بالأمر العسير، بل هو امر يتحقق في سرعة، مع ما نتمناه للاخوة في لبنان بأن يغلّبوا مصلحة لبنان على كل الاعتبارات، ويسلكوا سبيل التفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تباشر المهام الكثيرة التي تنتظرها، وانّ قطر ستكون كما هي دائماً إلى جانب لبنان".
وبرز في لقاء الموفد القطري مع رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي تشديد ميقاتي "على العلاقات الوطيدة التي تربط لبنان وقطر على المستويات كافة"، مشيداً "بالمساهمات القطرية في مساعدة لبنان على الصعوبات التي يمرّ فيها سياسياً واقتصادياً"، ومقدّراً "دعم قطر للجيش في هده المرحلة العصيبة بما يمكّنه من القيام بمسؤولياته". وجدّد التأكيد على "أنّ مدخل الحل للأزمات التي يعاني منها لبنان يكمن في انتخاب رئيس جديد في اسرع وقت".
الانتخابات البلدية
على انّ التطور الداخلي الأبرز الذي سُجّل امس، كان مبادرة وزير الداخلية والبلديات إلى دعوة الهيئات الناخبة لانتخاب المجالس البلدية خلال شهر ايار المقبل، وفق المواعيد التالية: 7 ايار في الشمال وعكار، 14 ايار جبل لبنان، 21 ايار بيروت وبعلبك الهرمل، و28 ايار الجنوب والنبطية.
وقال مولوي في مؤتمر صحافي امس: "وزارة الداخلية جاهزة للقيام بالانتخابات البلدية والاختيارية. ونحن ملزمون بدعوة الهيئات الناخبة، واليوم أو غداً نصدر التعاميم اللازمة بخصوص الترشيح، ونكرّر طلبنا بتأمين الاعتمادات اللازمة لخوض الانتخاب". واعتبر أنّ "استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية في هذه المرحلة هو تحدٍّ لنا، ونحن اعتدنا على المواجهة لمصلحة المواطن ولتطبيق القانون"، مشدّداً على أنّ "الإصرار والنيّة ضروريان لإجراء الانتخابات ولكن لا يكفي ذلك، وإصرارنا ترافق مع عمل، ونحن نطالب بتأمين الاعتمادات، والمبلغ ليس كبيراً مقابل ما أُنفق في العامين الماضيين".
ودعا إلى "التزام الانتخابات في موعدها لأهميتها، وسنلتزم بالقانون في ما يخصّ دعوة الهيئات الناخبة". وكشف اننا "كنا طلبنا من الحكومة تأمين الاعتمادات اللازمة، فالعملية الانتخابية متكاملة، وندعو المواطنين والاعلام للضغط معنا، لتحقيق مصلحة المواطن والالتزام بالقانون". ورأى "انّ الإصرار والنية ضروريان للانتخابات، ولكن غير كافيين، ونصرّ على الجهات المختصة لتأمين الاعتمادات، لما للانتخابات من مردود كبير على المناطق".
في السياق، رحّبت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان بالدعوة التي وجّهها وزير الداخلية والبلديات أمس لإجراء الانتخابات البلدية. واعتبرت انّ إجراء الانتخابات البلدية أمر مهم للالتزام بالمِهَل الدستورية والممارسات الديمقراطية في لبنان، في الوقت الذي يواجه فيه البلد فراغاً رئاسياً وشللًا مؤسساتياً واسع النطاق. واملت أن يقوم جميع المعنيين باتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عملية انتخابية سلسة، شاملة وشفافة، وتمكين اللبنانيين من ممارسة حقوقهم السياسية في بيئة سلمية ومنظمة.
جفاف الاحتياط
اقتصادياً ومالياً، يبدو انّ الصورة تزداد سواداً وخصوصاً على المستوى المالي، حيث اكّدت معلومات موثوقة لـ"الجمهورية"، انّ مخاوف شديدة أبدتها مستويات مالية دولية مسؤولة من دخول لبنان، خلال فترة لم تعد بعيدة، مرحلة جفاف احتياطه نهائياً من العملات الصعبة، في ظلّ النزف اليومي الحاصل في هذا الاحتياط.
أفكار خبيثة
وبحسب المعلومات، فإنّ "اشارات تحذيرية من هذا القبيل تلقّتها مستويات اقتصادية، تؤكّد انّ نفاد الاحتياط يعني بلوغكم نقطة اللاعودة". واكّدت مصادر اقتصادية مسؤولة لـ"الجمهورية": "انّ وضعنا الاقتصادي والمالي بلغ أعلى درجات الخطورة، فالنزيف المالي لم يتوقف، ولا يبدو انّه سيتوقف، و"الاحتياط" ينازع، ونفاده تارة بالتحويلات المشبوهة، وتارة برفع الدعم غير المسؤول، وتارة بسياسات مالية خرقاء وتعاميم تسند منصة صيرفة وتحدّدها بسقوف معينة لسعر الدولار، تخسّر من الاحتياط ما يزيد على 30 مليون دولار شهرياً، تضاف إلى الملايين التي تُهدر من الاحتياط، لا بل من اموال المودعين".
وتحذّر المصادر من انّه مع النزيف الدائم قد يصل الأمر إلى المسّ بالمحرّمات الاقتصادية، اي بالذهب، ومحاولة بيعه كله او بيع جزء منه، وقالت: "ما يُخشى منه في هذه الاجواء ان يكون من تراوده افكار خبيثة مثل بيع الذهب. اولاً هناك قانون يرعى هذا الأمر، ومعنى ذلك انّ التصرف بالذهب يحتاج إلى قانون في مجلس النواب، ولا نعتقد انّ في الإمكان إقرار مثل هذا القانون. اما ثانياً، وبمعزل عمّا اذا كان بيع الذهب سيحقق انفراجاً مالياً او لا، الّا انّ الخطورة الكبرى فيه انّ دولارات الذهب ستُهدر وتذهب إلى العدم، وربما إلى الجيوب، طالما انّ لبنان محكوم بالذهنيات ذاتها والعقليات التي تسببت بالأزمة وفاقمتها".
لا برنامج تعاون
إلى ذلك، وفي خلاصة حول لبنان، أكّد مسؤول مالي دولي لـ"الجمهورية": "انّ افق لبنان مقفل امام تلقّيه أي دعم مادي او مساعدات من الخارج، وخصوصاً انّ لا ثقة لدى المجتمع الدولي في إمكان ان تباشر السلطات المسؤولة في لبنان في إجراء اصلاحات، بل انّ المجتمع الدولي يستغرب كيف انّ السياسيين في لبنان، ورغم النصائح، لا يزالون ماضين في المنحى الذي يبقي لبنان بمنأى عن ثقة الخارج به".
ولفت المسؤول عينه إلى انّه لا يبقى امام لبنان في هذه الحالة سوى عقد برنامج تعاون مع صندوق النقد الدولي. ووفد بعثة الصندوق زار لبنان اخيراً، وكانت نتائج زيارته مخيّبة للآمال، وربما تكون للبعثة زيارة ثانية خلال شهر ايلول المقبل، ومن الآن وحتى ايلول نحو ستة أشهر، نتمنى أن يتمكن لبنان من تجاوزها.
ورداً على سؤال قال المسؤول الدولي: "ليس لدينا خطط لزيارة جديدة للبنان قبل شهر ايلول، الّا إذا استجد امر أوجب ذلك، حيث انّ الزيارة ممكنة لاستئناف البحث في برنامج تعاون مع لبنان، اذا ما تمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكّلت حكومة كاملة الصلاحيات".
الّا انّ المسؤول عينه نبّه إلى مسألة جوهرية، وتتجلّى في انّ "بعثة صندوق النقد زارت لبنان مرات عديدة، وفي كل مرة نلمس تراجعاً اكثر فأكثر، وبناءً على جولات النقاش العديدة، كوّنا ملاحظات جوهرية على أداء الجانب اللبناني، وخلاصتها انّه اصبح لدينا اقتناع كليّ بأنّ القابضين على السلطة في لبنان، ليسوا جدّيين ولا يريدون ان يصل لبنان إلى برنامج تعاون مع الصندوق. هذا الأمر لا يزعجنا كصندوق، ولا يسرّنا في الوقت عينه، فنحن نعرف وضع لبنان وحجم أزمته، وإلى أين يسير، ولذلك نحن حزينون على هذا البلد".
اضاف: "هذا التوجّه، لمسناه اولاً في الوضع السياسي القائم، وتغليب الحسابات الحزبية والسياسات المتناحرة على مصلحة لبنان، التي انتفت معها امكانيات إعادة انتظام عمل المؤسسات الدستورية وفي مقدّمها رئاسة الجمهورية والحكومة، وهذا ما أبلغته بعثة الصندوق صراحة إلى المسؤولين اللبنانيين على اختلافهم، ولم نشعر انّهم تأثروا بما نقوله، ولمسناه ايضاً، عندما حاول اللبنانيون الخروج على اتفاق اعلان المبادئ مع صندوق النقد، بالتشاطر على الصندوق، حيث تمّ الاتفاق على جوهر هذا الاتفاق ليحقق الغاية المرجوة منه، ومبادئ معينة ينبغي التأكيد عليها في قانون السرية المصرفية على سبيل المثال. الّا انّ الصيغة التي عُمل عليها كانت امراً بعيداً كل البعد عمّا اتفقنا عليه. والامر نفسه بالنسبة إلى الكابيتال كونترول، حيث انّ ما يُحضّر في لبنان حالياً لعرضه على الهيئة التشريعية لمجلس النواب اللبناني، هو صيغة خارجة عمّا تمّ الاتفاق عليه مع صندوق النقد".