
محمد صالح
مضى طلال سلمان ناشر جريدة "السفير" ..طاويا صفحة مشرقة من تاريخ الاعلام المكتوب في لبنان والعالم العربي, الاعلام الهادف ,حامل الرسالة ,المعبّر باقلامه ومنبره وصوته عن احلام وطموحات وآمال وطن عربي كبير مسلوب الارادة ,المقهور في طموحه , المنكوب بأرضه وقضيته وخيراته وثرواته.. وبفلسطين.
يغيب طلال سلمان , ذاك الحالم بوطن عربي يشتهيه ويتمناه, رسم معالمه بيده وريشته العروبية , بقلمه , وخطّه على صفحات جريدته "السفير" وسعى اليه كل صباح بافتتاحيته "على الطريق", الى وطن وصفه بشتى الاوصاف المعبرة في "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان"..
موجها بنفس الوقت النقد اللاذع , مع اللوم الشديد لكل من اعتبره مبددا لثروات هذه الامه ويهدر طاقاتها ولا يساهم بتنمية بلادها ورفاهية شعبها واستعادة حقوقها وارضها السليبة في فلسطين .. فتعرض الى كل ما تعرض له من محاولات لاسكات صوته واطفاء شمعة "السفير" .. لكنه بقي صامدا مصرا على آرائه واقفا كالطود الشامخ امام كل ذلك.
يغيب طلال سلمان عنا بجسده , بعد ان قرر طوعا وقف اصدار "السفير" في العام 2017 .. وعلل اسباب ذلك في حينه.
وامام هذا الغياب الكبير لا بد من التوقف عند محطات شخصية وتجربة جميلة امضيتها في كنف هذا الصرح العظيم مع نخبة من الزملاء كان لي شرف التعاون معهم في طليعتهم الاستاذ طلال .
قبل اقفال السفير بايام قليلة زرته في مكتبه بمبنى الجريدة , وكانت جلسة مطولة وسألته مباشرة "ابو احمد" لماذا اتخذت قرار اقفال السفيرفي هذا الوقت وهي في عز شبابها وعطائها والناس بحاجة لها وهي "صوت الذين لا صوت لهم"..
فرد مستفيضا بكلام معبّر , صادق ,شفاف وواضح , يحمل في طياته تعابير فيها مرارات وخيبات هذا الزمن , وكان بين الحين والاخر يأخذ نفسا عميقا ويكمل كلامه , عما حل بالوطن العربي , وعن رجالات ذاك الزمن الذين رحلوا من ابناء جيله , وعن الكبار الكبار من زعماء هذه الامه الذين غابوا بدءا من جمال عبد الناصر وسلسلة اسماء الغائبين الراحلين الكبار تطول , وبينهم الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل وغيرهم كثر ..
متحدثا عن بلاده في وطن الحلم التي تشتت اوصاله وفسدت احواله وتفرق شمله واقفلت حدوده على بعضها البعض .. عن فلسطين التي تاهت وضاعت وكبرت معاناتها وتتراكم مآسي شعبها .. فوق نكبتها.
وتابع وهو يدخن سيجارته آخذا نفسا عميقا قائلا "السفير" كانت تجول في معظم الدول العربية والناس بانتظارها كل صباح ..واليوم لم تعد توزع الا في لبنان ..
واكمل كلامه وصولا الى معاناته مع الشق المالي المتعلق باصدار الجريدة وموضوع التمويل ,, وهنا توقف مليا وقال بعد صمت وجيز "لم اتعود ان اطرق الابواب وأقفا طالبا مساعدة او غير ذلك .. فعلت ما بوسعي كي احافظ على ما انا عليه ونشأت في كنفه... لذا اتخذت هذا القرار الصعب عليّ جدا .. قرار اقفال الحلم الذي حلمت به وناضلت لاجله طيلة سنوات عمري وتعرضت لما تعرضت له في سبيله " .
طبعا جاء قرار اقفال السفير في وقت راحت مواقع التواصل الاجتماعي تحتل الحيز الواسع والاكبر وتنتشر بسرعة فائقة في هذا العالم .
طوال فترة عملي في جريدة "السفير" والتي بقيت لحين قرار الاقفال ان في بداياتي بالمبنى الرئيسي في بيروت او مديرا لمكتب صيدا والجنوب , كان الراحل الاستاذ طلال الحاضر الدائم في كل المراحل يتابع كل شاردة وواردة .. وحتى ادق التفاصيل وكان يسأل عن كل شيء , وكانت لعاصمة الجنوب صيدا حصة يومية وازنه في اعمدة الجريدة , وتمكنا بفضله من إحضار هذه المدينة ومنطقتها ومخيماتها وكل الجنوب في الجريدة بشكل يومي وفي كل الصفحات ..
حوالي الاربعين عاما من عمري ..امضيتها في "جريدة السفير" , لم اغادرها او تغادرني يوما.. امضيت كل تلك المرحلة بحلوها ومرها بقساوتها وبساطتها باحداثها المتعاقبة وما اكثرها.. مضت وكانها رمشة عين بفضل رعاية وعناية واهتمام ومتابعة من الراحل "ابو احمد" ومواكبة شخصية لافته.
في العدد الاخير من جريدة السفير الذي صدر بعنوان "الوطن ..بلا السفير" .. كتبت في ذاك العدد " جريدة السفير .. لن اقول وداعا".. اليوم غادرنا الى الابد استاذنا الكبير ومعلمنا , الصديق , الاب والراعي والحاضن والمؤثر .. اليوم اقول وداعا لهذا العروبي , الرجل العصامي , الذي يطوي برحيله صفحات ذاك الزمن الجميل الذي حلم به ويغادر , ملتحقا بالرجالات الكبار امثاله , تاركا عالما لا يشبهه .. يطوي صفحات شخصية كانت لنا معه على مدى العقود الاربعة , في ثناياها ذكريات جميلة لا تنسى ابدا .
كل العزاء الى عائلته واولاده هنادي، ربيعة، أحمد، وعلي. والى كل الزملاء والاصدقاء .. والى كل من واكب الاستاذ طلال سلمان وبقي الى جانبه في كل الاوقات .. العزاء الى الزميل الصديق حسين ايوب والى الاستاذة ديانا قوصان.